هل بات قادة اوروبا يخشون “سلام ترامب” في أوكرانيا؟!

يمنات
أنس القباطي
أثار تعليق صحيفة الإندبندنت البريطانية الصادر في الثامن من ديسمبر/كانون أول 2025 بشأن احتمالات تعامل دونالد ترامب مع الحرب في أوكرانيا نقاشًا واسعًا في الأوساط السياسية والإعلامية الأوروبية.
التعليق لا يكتسب أهميته من كونه رأيًا صحفيًا فحسب، بل من كونه تعبيرًا مكثفًا عن حالة قلق بنيوي داخل أوروبا إزاء التحولات المحتملة في السياسة الخارجية الأمريكية، وما قد يترتب عليها من آثار مباشرة على الأمن الأوروبي والنظام الدولي الليبرالي.
تعليق الصحيفة
“من المؤكد أن فكرة كون دونالد ترامب، المنغمس في بريق جائزة الفيفا للسلام عديمة المصداقية، قد يكون في مزاج يسعى فيه لتحقيق سلام عادل ودائم في أوكرانيا هي مجرد وهم (..) إن القلق الكبير يكمن في أن التعاطف العميق لترامب مع روسيا وسعيه لتحقيق أي اتفاق، مهما كان غريبًا، قد يؤدي إما إلى فشل المفاوضات بشكل كامل، بحيث تتخلى أمريكا عن أوكرانيا تمامًا وتخفف العقوبات ضد روسيا، أو إلى اتفاق يتوافق تقريبًا مع شروط الكرملين، مما يعرض أوكرانيا والدول الأوروبية الأخرى وحلف الناتو نفسه إلى موقف خطير. وتزداد هذه المخاوف مع الاستراتيجية الأمنية الأمريكية الجديدة، التي تكشف أن سياسة واشنطن تشمل تقويض الحكومات الأوروبية الليبرالية المنتخبة ديمقراطيًا، وإضعاف الاتحاد الأوروبي برمته، ومنع توسيع حلف الناتو، وبدلاً من معاملة الحلفاء الأوروبيين كشركاء يقتسمون مع الأمريكيين قيما مشتركة، تفضل إدارة ترامب أن تجعلهم قريبين من نموذج المجر”.
بعد معياري
تنتمي صحيفة الإندبندنت إلى التيار الليبرالي في الصحافة البريطانية، وهو تيار يتبنى عمومًا الدفاع عن القيم الليبرالية الغربية، مثل الديمقراطية التمثيلية، وسيادة القانون، والتعددية، والتحالفات متعددة الأطراف. ويؤثر هذا الانتماء الأيديولوجي بوضوح في طريقة مقاربة الصحيفة لشخصية دونالد ترامب وسياساته.
ومن هذا المنظور، لا يمكن قراءة النص باعتباره تقريرًا إخباريًا محايدًا، بل باعتباره مقال رأي تحليلي ببعد معياري، يسعى إلى تقييم السياسات المحتملة بناءً على منظومة قيم محددة، وليس فقط على معايير المصلحة الواقعية.
ترامب في الخطاب الليبرالي الأوروبي
تقدّم الإندبندنت دونالد ترامب بوصفه فاعلًا سياسيًا غير موثوق، تحكمه اعتبارات شخصية وبراغماتية قصيرة المدى، وتغيب عنه الرؤية الاستراتيجية طويلة الأمد. ويظهر ذلك بوضوح في تشكيك الصحيفة في فكرة أن يكون ترامب في “مزاج” يسعى إلى تحقيق سلام عادل ودائم في أوكرانيا.
هذا التصوير يعكس تصورًا أوروبيًا ليبراليًا راسخًا يرى في ترامب: ممثلًا للشعبوية القومية، ومناهضًا للمؤسسات متعددة الأطراف، وغير ملتزم بالقواعد الليبرالية الدولية.
وبالتالي، فإن رفض الصحيفة لفكرة “سلام ترامب” لا ينبع فقط من تقييم عملي للسياسات، بل من رفض أعمق للمنهج السياسي الذي يمثله.
بين القيم والصفقات
تفترض الصحيفة أن أي تسوية قد يدفع بها ترامب ستكون محكومة بمنطق “الصفقة” لا بمنطق العدالة الدولية. وهنا يبرز تعارض جوهري بين مقاربتين نظريتين في العلاقات الدولية: المقاربة الليبرالية، التي ترى أن السلام يجب أن يستند إلى القانون الدولي واحترام السيادة، والمقاربة الواقعية، التي تعتبر أن السلام هو نتاج توازن قوى ومصالح، بغض النظر عن الاعتبارات الأخلاقية.
تضع الإندبندنت ترامب بوضوح في المعسكر الثاني، وترى أن هذا النهج قد يؤدي إلى سلام هش، يكرّس نتائج القوة العسكرية الروسية بدلًا من معالجتها.
سيناريوهات
تطرح الصحيفة سيناريوهين رئيسيين تصفهما ضمنيًا بالكارثيين:
الأول: الانسحاب الأمريكي من دعم أوكرانيا
ويتضمن هذا السيناريو تقليص الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي، وربما تخفيف العقوبات المفروضة على روسيا.
ومن منظور الصحيفة، فإن هذا الخيار سيؤدي إلى إضعاف قدرة أوكرانيا على الصمود، وتعزيز موقع روسيا التفاوضي، وتقويض الردع الغربي
الثاني: اتفاق تسوية بشروط قريبة من الرؤية الروسية، حيث يفترض هذا السيناريو استمرار الدور الأمريكي، لكن باتجاه فرض تسوية تعترف بالأمر الواقع الذي فرضته روسيا.
وترى الصحيفة أن هذا السيناريو لا يقل خطورة، لأنه يشرعن استخدام القوة لتغيير الحدود، ويضعف مصداقية النظام الدولي، ويخلق سوابق قد تُستنسخ في نزاعات أخرى
أوكرانيا والأمن الأوروبي
تعامل الإندبندنت أوكرانيا ليس كملف إقليمي معزول، بل كعنصر مركزي في بنية الأمن الأوروبي. فالدعم الغربي لكييف يُنظر إليه باعتباره اختبارًا لالتزام الولايات المتحدة بأمن أوروبا، ومؤشرًا على تماسك التحالف الأطلسي، كركيزة لردع التهديدات المستقبلية.
وعليه، فإن أي تراجع أمريكي يُقرأ أوروبيًا باعتباره بداية لإعادة توزيع الأدوار الأمنية، وليس مجرد تعديل في السياسة الخارجية.
تقويض الاتحاد الأوروبي
يتجاوز ما أشارت إليه مسألة أوكرانيا ليطرح اتهامًا أكثر عمقًا، يتمثل في أن الاستراتيجية الأمنية الأمريكية الجديدة، كما تفهمها الصحيفة، لا تكتفي بإعادة ترتيب الأولويات، بل تسعى إلى إضعاف الاتحاد الأوروبي كمشروع سياسي، وتقويض الحكومات الليبرالية المنتخبة، ومنع توسع حلف شمال الأطلسي.
وهذا الطرح يعكس تصاعد الشكوك الأوروبية في أن واشنطن، في ظل إدارة ترامب، قد تنظر إلى الاتحاد الأوروبي ليس كشريك استراتيجي، بل كمنافس اقتصادي وسياسي.
المجر كـ“نموذج”
إشارة الصحيفة إلى “نموذج المجر” تحمل دلالة تحليلية مهمة. فالمجر تُستخدم في الخطاب الليبرالي الأوروبي كنموذج لدولة ديمقراطية انتخابية ذات مضمون ليبرالي ضعيف، تميل إلى المركزية السلطوية، وتنتهج سياسة خارجية براغماتية تجاه روسيا.
وعندما تُلمّح الصحيفة إلى تفضيل إدارة ترامب لهذا النموذج، فإنها تشير إلى احتمال تشجيع أنماط حكم قومية محافظة داخل أوروبا، بما يؤدي إلى تفكك التماسك القيمي للاتحاد الأوروبي.
بين الاستمرارية والاختبار
يشكّل الناتو محورًا أساسيًا في المخاوف التي تطرحها الصحيفة، فهي ترى أن أي إضعاف للدور الأمريكي داخل الحلف، أو أي تشكيك في جدوى توسعه، من شأنه أن يخلق فراغًا أمنيًا قد تستغله روسيا. كما أن الناتو، في هذا السياق، لا يُختزل في كونه تحالفًا عسكريًا، بل يُنظر إليه كإطار مؤسسي للهوية الغربية المشتركة.
دلالات
تعكس مخاوف الإندبندنت تصورًا أوسع لتحول النظام الدولي من نظام قائم على القواعد إلى نظام أكثر سيولة تحكمه موازين القوى والصفقات الثنائية، وهو تحول، إن تحقق، ستكون له تداعيات لا تقتصر على أوروبا، بل تمتد إلى مناطق أخرى تشهد نزاعات مزمنة.
قلق أوروبي
ومما سبق يمكن القول إن تعليق صحيفة الإندبندنت يمثل وثيقة تحليلية تعبّر عن لحظة قلق أوروبي عميق تجاه مستقبل العلاقة عبر الأطلسي. لان ما أوردته الصحيفة لم يختزل في موقف من دونالد ترامب كشخص، بل يعكس خشية من تحول بنيوي في الدور الأمريكي وفي طبيعة النظام الدولي الليبرالي.
وبينما قد ينطوي التحليل على قدر من التهويل، إلا أنه يسلط الضوء على سؤال جوهري بات مطروحًا بقوة، يتمثل في: هل ما تزال القيم والتحالفات التي حكمت النظام الدولي منذ نهاية الحرب الباردة قادرة على الصمود، أم أن العالم يتجه نحو مرحلة جديدة تعاد فيها صياغة العلاقات الدولية وفق منطق المصالح الصرفة؟
وهذا السؤال بحد ذاته، أكثر من أي شخصية سياسية بعينها، بل انه جوهر النقاش الذي طرحته الإندبندنت، ما يمنح ما أثارته أهمية تحليلية تتجاوز اللحظة الراهنة.
عن عرب جورنال