سياسة الانتحار الاقتصادي

يمنات
قصي المحطوري
هذا مقال صِيغَ بلغة الواقع المرير:
وكنت لا أرغب في نشره ولكن محبة وخوفا قمت بنشره الآن….
حين تأكل الدولة أطرافها: تشريحٌ لسياسة “الانتحار الاقتصادي”
في قوانين الطبيعة، ثمة ظاهرة بيولوجية يائسة تُسمى “الالتهام الذاتي”، حيث يشرع الكائن في استهلاك أنسجة جسده حين يشتد به الجوع وتضيق به السبل. يبدو أن هذا المشهد السريالي يتجسد اليوم في العقلية التي تُدار بها الموارد الاقتصادية في صنعاء؛ فنحن أمام سلطةٍ لا تكتفي بالفشل في إطعام شعبها، بل بدأت -دون وعيٍ أو بوعيٍ مفرط- في “أكل نفسها” عبر تقويض ركائز البقاء الوطني.
الموارد المنسية.. ثرواتٌ تحت ركام الإهمال
اليمن، الذي كان يوماً “سعيداً” بتنوعه، يقف اليوم عارياً من أي صادراتٍ محترمة. وبينما تتسابق دول العالم على حجز مقعد في قطارات التكنولوجيا والسياحة، نجد ثرواتنا الأصيلة تُذبح على مذبح الإهمال. أين هو “البن اليمني” الذي كان سفيراً للعالم؟ أين خيرات البحر الأحمر والعربي من الأسماك التي تُنهب أو تُهمل؟ أين العسل والفاكهة التي حباها الله بمذاقٍ لا يُضاهى؟
الحقيقة المرة هي أننا لا نملك اليوم ما نبيعه للعالم، ليس لفقرٍ في الأرض، بل لفقرٍ في الرؤية. لقد استُبدلت خطط التنمية بـ “خطب التعبئة”، وتحولت وزارة الاقتصاد من خلية تفكير استراتيجي إلى مجرد مكتبٍ لتلقي الأوامر السياسية.
قرارات “الاستهلاك الإعلامي”: الضحك على الذقون
أخطر ما يواجه الدول هو أن تتحول القرارات المصيرية إلى مجرد “مادة للدعاية”. خذ مثلاً قرار “إيقاف التعاملات الربوية”؛ وهو قرارٌ نُزع من سياقه الاقتصادي والشرعي الشامل ليُرمى في وجه نظامٍ مصرفيٍ متهالك أصلاً، دون توفير بدائل واقعية أو أدوات مالية حديثة تحمي مدخرات الناس وتضمن انسيابية الحركة المالية. والنتيجة؟ شللٌ أصاب ما تبقى من ثقة في القطاع المصرفي.
أما شعارات “توطين التصنيع المحلي”، فهي كلمة حقٍ أُريد بها استهلاكٌ إعلامي. كيف نصنع ونحن نفتقر لأبسط مقومات الطاقة، والمواد الخام، والبيئة التشريعية المستقرة؟ إن التوطين الحقيقي يبدأ ببناء الإنسان والآلة، لا بفرض قيودٍ تمنع الاستيراد قبل توفير البديل، مما سيؤدى لارتفاع الأسعار واختفاء السلع، وترك المواطن فريسةً لـ “السوق السوداء” المقننة.
الجباية.. عصر السخرة الحديث
بدلاً من أن تبحث السلطة عن موارد مبتكرة، أو تفتح آفاق الاستثمار، لجأت إلى أسهل الطرق وأكثرها تدميراً: “جيب المواطن”.
لقد تحولت الضرائب والزكاة والجمارك والجبايات المتعددة إلى مقصلة تُطارد التاجر الصغير قبل الكبير، والموظف المطحون قبل الميسور. إن استمرار الضغط الضريبي على مجتمع لا ينتج، ولا تصله خدمات مقابل ما يدفع، هو تعريفٌ حرفي لـ “عصر السخرة”.
أنتم تعتصرون حجراً لا ماء فيه، وتظنون أنكم تبنون دولة، بينما أنتم في الحقيقة تُجففون منابع الحياة في الأسواق.
حذارِ من لحظة التلاشي
إن من “يأكل نفسه” قد يشعر بالشبع اللحظي، لكنه في النهاية يقضي على أعضائه الحيوية التي تضمن له البقاء. إن السياسة الاقتصادية القائمة على ردود الأفعال، والارتجال، وتغليب المصلحة الإعلامية على الحقيقة المعيشية، هي طريقٌ ذو اتجاه واحد نحو الكارثة.
إن الاقتصاد لا يُدار بالشعارات، والبطون الخاوية لا تقرأ المانشيتات العريضة. إنكم بحاجة إلى ثورة حقيقية في “العقل الإداري” قبل أي شيء آخر؛ ثورة تعيد للبن اليمني اعتباره، وللصياد كرامته، وللتاجر أمنه، وللمواطن حقه في العيش دون أن يكون هو “الوقود” الذي يحترق لتستمر ماكينة الجباية.
أفيقوا.. فمن يأكل نفسه، لن يجد غداً ما يطعم به شعبه، ولن يجد لنفسه مكاناً في خارطة المستقبل.
من صفحة الكاتب على الفيسبوك