صباح عدني ثقيل

يمنات
محمد المخلافي
استيقظت اليوم قبل اكتمال الصباح، مثقل الرأس ومتعب الجسد. فتحت عيني بصعوبة وحاولت أن أجرّب صوتي، فخرج مبحوحًا، كأنه لم يعد لي. صوت ضاع أمس بين الصياح والتعب والانتظار الطويل في مصلحة الجوازات بعدن، حيث ذهبت لا لأطلب شيئًا استثنائيًا، بل جوازات سفر لأسرتي.
أبسط حق يمكن أن يحصل عليه الإنسان بأقل جهد، لكنه هنا يتحوّل إلى رحلة استنزاف في بلد كان يُسمّى يومًا (يمن الحكمة)، ولم يبقَ من الاسم سوى السخرية.
جلست أحاول أن أكتب عن رحلتي الثالثة إلى عدن خلال أقل من خمسة أشهر. الرحلة نفسها تتكرر، لكن التعب يغير شكله في كل مرة: انتظار أطول، أعصاب أضعف، وإحساس أثقل بأنك تُستنزف بلا سبب.
بدأت أكتب، ثم توقفت، وتصفحْتُ الفيسبوك، فظهر مقال تعريفي عن صديقي الكاتب والأديب المختلف، علوان مهدي الجيلاني. قرأته ثم أعِدْت قراءته مرة ثانية، ووجدت نفسي أترك رحلتي جانبًا وأمضي في اتجاه آخر. ربما لأن الكتابة أحيانًا تبحث عن متنفسها في الإنسان، لا في الوجع.
تعرفت على علوان أولًا من خلال النص، ثم عبر الجلسات. ومع الوقت تدرك أنك أمام شخص لا يمكن اختزاله في لقب شاعر أو ناقد أو باحث، رغم أنه كل ذلك وأكثر. علوان واحد من أولئك الذين شقّوا طريقهم بهدوء، دون ضجيج، ودون حاجة إلى رفع أصواتهم ليُروا.
وُلد عام 1970 في قرية الجيلانية بمديرية القناوص في الحديدة. قرية بسيطة بدأت فيها الحكاية من (المعلمّة)، المكان الذي يتعلم فيه الطفل الحروف، يحفظ، يخطئ، ثم يعيد المحاولة. من هناك انتقل بين مدارس الجيلانية والقناوص، ثم إلى الزيدية حيث أنهى الثانوية. الطريق لم يكن مفروشًا، لكنه كان واضحًا: القراءة، ثم القراءة أكثر.
عندما التحق بكلية الآداب في جامعة صنعاء، قسم اللغة العربية، لم يكن يبحث عن شهادة فقط، بل عن أدوات. الشعر عنده ليس حالة مزاجية عابرة، والنقد ليس منصة للتعالي، بل معرفة وفهم ومشاركة.
ظهر صوته الشعري في أواخر التسعينيات بديوانه الأول (الوردة تفتح سرتها)، ثم (راتب الألفة) و(إشراقات الولد الناسي)، كانت كتبًا مبكرة لكنها واضحة الملامح، لا تشبه السائد، ولا تركض خلف الموضة.
بعد ذلك توالت أعماله: (غناء في مقام البعد)، (كتاب الجنة)، وجُمعت بعض دواوينه في مجلد واحد عام 2004، في زمن كان فيه المشهد الثقافي اليمني أكثر اتساعًا وحضورًا.
لكن علوان لم يتوقف عند الشعر. كان لديه ميل صادق للتراث والنصوص المنسية، فحقق ديوان (الحضراني)، وعمل على نصوص أخرى مثل (منثور الحكم) لمحمد بن عمر حشيب. لقد كان ذلك الجهد لفهم الجذور وربط الحاضر بما سبقه.
كما كان يقرأ الآخرين ويكتب عنهم، عن رواد الثقافة اليمنية وجيل التسعينيات، في كتب مثل (قمر في الظل) و(أصوات متجاورة). قراءاته هادئة، بلا نزعة لإثبات تفوق، مثل شخصيته خارج الكتابة: مثقف واسع الاطلاع، لكنه غير متعالٍ، يجلس معك كما لو أن المعرفة شيء مشترك.
عرفته في جلسات كثيرة مبتسمًا، متفائلًا على طريقته، رغم كل ما يحيط بنا من خراب. يكتب كثيرًا وينشر كثيرًا، لا لأنه محمي أو مدعوم، بل لأنه عنيد بالمعنى الجميل للكلمة.
لا ينكسر بسهولة، ولا يستعرض ألمه، ولا يتاجر بالمعاناة. طيب القلب، هادئ الطبع، متسامح، ويصعب أن تراه يجرح أحدًا، حتى في خلافه.
في السنوات الأخيرة اتجه أكثر إلى السرد، فأصدر رواية (أورفيوس المنسي)، ثم (مِعلامة)، وكتب دراسات وسرديات مثل (مفاتيح الأدراج) و(جغرافيا طللية). وواصل إصدار دواوين شعرية، منها (يد في الفراغ) و(حبة البرد)، وفي (شجون الغريبة) عاد إلى قصيدة النثر، متتبعًا تحولات الكتابة من المجلات إلى زمن الشاشات، بلا أحكام مسبقة.
علوان الجيلاني ليس حالة استثنائية لأنه أصدر هذا العدد من الكتب، بل لأنه ظل إنسانًا عاديًا وسط كل هذا الإنتاج. يكتب ويقرأ ويضحك ويصغي، ويمضي في طريقه دون ادعاء بطولة.
ربما لهذا السبب بالذات، وأنا جالس في صباح عدني ثقيل، وجدت في الكتابة عنه استراحة من وجعي.
وفي بلد مثل هذا البلد، وفي سنوات كهذه، البقاء متماسكًا، والكتابة، والمثابرة، هذا وحده إنجاز.