مَن الفار مِن وجهِ مَن؟! .. العدالة حين تفرُّ من وجه المواطن بدلًا من أن تُلاحقه

يمنات
في الكثير من القضايا الجزائية، يُفاجَأ المواطنون ومعهم القضاة والمحامون بوصف بعض المتهمين بأنهم “فارون من وجه العدالة”، رغم أن هؤلاء الأشخاص:
لهم محل إقامة معروف.
لم يُسلَّم لهم أي تكليف بحضور قانوني سليم.
لم تُحرَّر أي إفادة من مأمور الضبط تفيد التواري أو الامتناع.
بل إنهم في بعض الأحيان يكونون حاضرين في المحكمة في قضية أخرى، ويُعلن في ذات الجلسة أنهم متهمون فارون في قضية موازية!
فمن الفار إذًا؟ هل العدالة تُمارَس بصدق، أم أن وصف الفرار يُستخدَم تعسفًا؟
القاعدة القانونية في وصف “الفار من وجه العدالة“
ينظم قانون الإجراءات الجزائية اليمني هذا الموضوع في:
المادة (285): تشترط إعادة إعلان المتهم مرة ثانية، وإذا لم يحضر تأمر المحكمة بالنشر عن فراره.
المادة (288): لا يُعد المتهم فارًا إلا إذا هرب بعد الحبس، أو لم يكن له محل إقامة معروف، أو وُجدت قرائن على إخفائه نفسه، ولا يُعتبر كذلك إذا حضر بعض الجلسات وتغيب عن أخرى دون عذر.
وعليه، فكل وصف للمتهم بالفار دون تحقق هذه الشروط يعد باطلًا قانونًا ومخالفًا للواقع.
قصور التكليف بالحضور أحد أسباب “فرار العدالة”
حدد القانون بيانات ورقة التكليف بالحضور بدقة في:
المادة (310): وتضمنت: اسم المتهم، محل إقامته، زمن الواقعة، وصف الجريمة، الدليل، وتاريخ الجلسة.
المادة (311): توجب على النيابة إعلان المتهم وإخطاره قبل الجلسة بثلاثة أيام.
المادة (312): يوجب الإعلان لشخص المتهم أو في محل إقامته، ولا يُعتد بالتكليف إلا إذا تم إعلانه وفق القانون.
فإذا لم تُسلَّم الورقة أصلًا أو سُلِّمت إلى جهة لا تعنيه، فلا يُنتج أي أثر قانوني، ولا يجوز وصفه بالفار.
هل الحجز على أموال الفار عقوبة أم وسيلة تبليغ؟
المادة (290): تجيز للمحكمة أن تأمر بالحجز على أموال الفار ومنعه من التصرف.
المادة (292): تُصرف من الأموال المحجوزة نفقة شهرية لمن كان يعولهم.
هذا الإجراء ليس عقوبة، بل وسيلة إجرائية هادفة لإشعاره بالقضية، وضمان مثوله للدفاع عن نفسه.
لكن الواقع العملي يُظهر أن المحاكم نادرًا ما تلجأ إليه، رغم أنه قد يكون أكثر عدالة من وصف الفرار الكيدي.
المقنن نفسه ساهم في جعل العدالة فارّة
المادة (315) فقرة (1): “يجب على أي متهم في جريمة أن يحضر المحاكمة بنفسه، ولا يُقبل الحضور بالوكالة إلا في قضايا الغرامات فقط”.
في المقابل: المادة نفسها فقرة (2): “يجوز لبقية الخصوم الحضور بأنفسهم أو بوكلائهم”.
وهنا تتجلى المفارقة: في الوقت الذي يُجيز فيه القانون للمدعي المدني أن يُمثل بوكيل، يُجبر المتهم على الحضور بنفسه، حتى في القضايا البسيطة.
هذا تمييز صارخ بين الخصوم، يرهق المتهم ويجعل مثوله خطرًا عليه في ظل واقع الحبس الاحتياطي التعسفي.
الحبس الاحتياطي… حين يُفرّ المواطن من النيابة لا من العدالة
المادة (184): الحبس الاحتياطي لا يجوز إلا بعد استجواب أو فرار، بشرط وجود دلائل كافية، ووقوع الجريمة تحت عقوبة الحبس.
المادة (194): تجيز الإفراج بضمان أو بغير ضمان، إذا تعهد المتهم بالحضور.
لكن الواقع
النيابة تطلب الحبس فورًا دون استجواب كافٍ.
وتطالب بضمانات مشددة حتى مع وجود محل إقامة.
وترفض الإفراج في قضايا بسيطة.
النتيجة
يخشى المواطن من حضور النيابة حتى لو كان بريئًا، ليس من العدالة، بل من سوء استخدامها.
ختامًا
حين تُطلق السلطة وصف “الفار من وجه العدالة” على كل من لم يُكلف بالحضور، ولم يُمكَّن من الدفاع، ولم يهرب، فإن العدالة هي التي تُفرّ من وجهه لا العكس.
لا يجوز حرمان المتهم من حضور وكيله.
لا يجوز حبسه احتياطيًا دون مبرر جدي.
لا يصح وصفه بالفار دون إعلان صحيح.
العدالة تُبنى على ميزان القسط، لا على افتراض الذنب.
المصدر: قناة بوابة القانون والقضاء على تليغرام