أهم الأخبارالعرض في الرئيسةفضاء حر

اختبار اخلاقي ومعيار وجودي

يمنات 

عبد الوهاب قطران

جربوا في الشعب شعبيتكم

صيحة البردوني التي خرقت جدار الزيف:

في زمن كانت الحقيقة فيه مقموعة، والصوت الحرّ محاصرًا بين زنزانة ووصاية، خرج عبدالله البردوني من عزلته البصيرة ليلقي كلمته كسيف من نار، يشق به ليل الخداع السياسي.

 لم يكن البردوني شاعرا فحسب، بل كان رائيًا ونبيًّا أعزل يحمل في كلماته مشعل الثورة والتنوير، وفي صوته رعشة الوطن الموجوع.

من على منبرٍ تلفزيوني وبصوت فيه هدير الحكمة وسخرية العارف، قال كلمته الخالدة التي ظلت تتردد في الأذهان كأنها نشيد للحرية:

“دائمًا يقولون نحن شعبيون… طيب جربوا شعبيتكم في الشعب”

يا لها من طلقة شعرية في قلب الزيف!

قالها البردوني وهو أعمى البصر، لكنه كان أبصر من ألف بصير. قالها في وجه الذين امتطوا الشعب، واحتكروا الحديث باسمه، وجعلوه جسرا لمطامعهم، وديكورًا لشرعياتهم الزائفة.

جربوا شعبيتكم في الشعب…

لا في الشعارات ولا في الميادين التي تُعبّأ بالأجر والمكر،

ولا في صناديق تُدار بخيوط من خلف الستار

ولا في جوقات التصفيق الجاهز،

ولا في إعلام يطبل لكل ناعق.

جربوها هناك،

في وجوه الأطفال الجائعين،

في نظرات الأمهات اللواتي يبعن دموعهنّ على أرصفة القهر،

في صوت المعلم الذي أُهين،

في أنين الجندي الذي خُدع،

في نبض الشارع حين يثور… 

لا حين يساق

عبارة البردوني ليست مجرد سخرية شعرية، إنها اختبار أخلاقي، ومعيار وجودي لأي سلطة تدّعي أنها من الشعب وللشعب. فمن لا يولد من رحم الشعب، لا يمكنه أن يعود إليه. ومن لا يسمع أنينه، لا يحق له الحديث باسمه.

واليوم، بعد عقود من تلك الصرخة، ما زالت عبارة البردوني تقف شامخة، تفضح الأقنعة، وتوقظ الضمائر:

 لا تقولوا “نحن الشعب” بل دعوا الشعب يقول”أنتم منّا”

دعوا الشوارع تهتف لكم دون هندسة،

دعوا القلوب تميل إليكم دون قسر.

دعوا التاريخ يحكم، لا البيانات الصحفية.

في زمن البردوني، كانت الشعارات تهدر، لكنه وحده كان يقول الحقيقة،

وفي زمننا، تتكاثر الشعارات كالطحالب، لكن من يقول الحقيقة؟

من يجرؤ أن يقول: جربوا شعبيتكم في الشعب؟

ربما علينا اليوم أن نردّدها من جديد،

لكن ليس بأصواتنا فقط،

بل بأفعالنا،

بصمودنا،

وبحلمنا بوطنٍ يقال فيه:

الشرعية ليست ما يقال، بل ما يحبّه الناس.

والشعب… لا يخدع مرتين..

زر الذهاب إلى الأعلى