العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. يوم تغوطتُ ثعبانا

يمنات

أحمد سيف حاشد

قرانا كانت تفتقر للكثير مما نحتاجه أو نلجأ إليه.. لا توجد مستوصفات صحية ولا مرافق طبية.. لا توجد مختبرات يمكنها كشف عللنا وتشخيص أمراضنا حتى اليسيرة منها.. لا يوجد شيء اسمه وعي صحي، ولا شيء لدينا اسمه إرشادات طبيب.. كان غالبا التوكل في الصحة على الله، وكثيرا ما كانت تتدهور الصحة ويهتد حيلنا من المرض.. كان الممكن قليل وغير متسع، أو هو في حكم ما قل وندر لمن لديه بعض من فسحة ومقدرة..

كانت العلاجات المتوفرة في “الدكاكين” لا تزيد أسماءها عن عدد أصابع اليد الواحدة؛ وهي “الأسبرو” و “الأسبرين” و “أبو فاس” و “المستليتم” و “شربة سنة” هذا كل ما نعرفه عن العلاج الذي يباع ومتعارفا عليه في تلك الأيام.. هذه كانت كل صيدليتنا التي نلوذ بها ونلجأ إليها كلما داهمنا الرشح أو الزكام أو الحمى أو وجع الرأس أو ألم المفاصل وصرير العظام..

أما الكي أو ما نسميه بـ”المياسم” فيستخدم لمعالجة بعض الأمراض التي لم تستجب للعلاج المعتاد، أو كانت مستعصية على ذلك الزمان والمكان.. إذا عجز المريض من الحصول على الطبيب والتطبيب المناسب؛ فالكي آخر العلاج، وربما ليس بآخره، وهناك من فضّله.. وربما تتعدد وتتنقل “المياسم” في الجسد الواحد بحثا عن الشفاء حتى وإن تركت تشوهات في الجسد ترافق أصحابها حتى آخر العمر.. وبالكي على المريض أن يشفى، أو يصبر ويبحث عن البديل، أو ينتظر موت العليل..

أما ما نسميه “الصفار” ويسمى اليرقان فكان يتم قطع أحد الأوعية الدموية تحت اللسان.. أما الجراح فكنّا نستخدم الأشجار لتلتئم من خلال مادة صمغية توجد في شجرة “الأبكي”.. وهناك بعض النبات والأشجار الأخرى يمكن أن يتم اللجوء إليها لأمراض أخرى أعتاد عليها الناس كـ “القُطِّبة” مثلا لتفتيت أو وقف نمو حصوات الكلى أو مساعدتها على الخروج.

المصل أو التطعيم لم نعرفه غير مرة وصل إلينا عبر المدرسة، وكان ضد مرض الجدري.. لازلت أحمل “مشلاه” على ساعدي إلى اليوم.. كنا نشعر إننا نعيش في مكان قصي من هذا العالم العصي حتى على مخيلتنا في تلك الأيام..

الطبيب والذي كان أبي يسميه “الحكيم” لا يوجد إلا في منطقة بعيدة لم نلجأ إليه إلا إذا بلغ المرض مبلغه، وصارت الأعرض شديدة تكبنا إليه كبّا.. ولكن لا نلجأ إليه في الغالب إلا إذا كان الحال يسمح والمرض قد أصابنا بمكين.. كنّا نقاوم أمراضنا أو نتعايش في الغالب معها حتى تهدّنا أو تدفعنا الضرورة إن كان في الأمر متسع للذهاب إلى الطبيب الذي يبعد عنّا أميالا وفراسخا..

المرّتين اللاتي أسعفت فيهما إلى الطبيب في القرية؛ كانت الأولى إلى منطقة “ثباب” والثانية إلى عيادة في منطقة شعب جنوب اليمن.. كان هذا عندما داهمني انقطاع النفس فجأة في ساعة متأخرة من الليل في حالة تشبه “الربو” أو هي كذلك.. وفي الحالتين كان اسعافي قد تم على ظهر حمار..كنّا في قرانا نتعايش مع أمراضنا أو هي تتعايش معنا، وحالما يهدّنا المرض يمكن أن نبحث عن حيلة أو طبيب، أو نقصد المدينة لمن له قدرة وسعة.. أغلب الناس كانوا لا يصلوا إلى طبيب أو مدينة.. كنا نتعايش مع “المخافات” كلها.. كان الفقر والمرض يتكالبان علينا، وينالان منّا كل منال..

***

ذهبنا إلى سوق الخميس أنا وابن عمي سالم.. عزمنا على الهروب، وهربنا بالفعل إلى منطقة “الرما” لنلجأ إلى بعض أقاربه هناك.. كان فعلنا أشبه بلجوء إنساني ننشده.. وفي طريق هروبنا في “العتبة” شاهدتُ الجبال تسير بسرعة.. حاولت دعك عينيى وإمعان النظر فيما أراه فوجدته يبدو مؤكدا، بل رأيتها تركض بسرعة مذهلة..

سألت رفيقي سالم، الهارب معي، هل يرى ما أراه؛ فأجابني أنه أيضا يشاهد ما أشاهده والجبال حولنا كلها تسير مسرعة.. تحدثنا واتفقنا أن ما نشاهده حقيقة لا خيال.. بدا لنا الأمر وكأن إلهاما سماويا وكشفا عظيما خصنا الله به.. ظننا إننا اكتشفنا قانون دوران الأرض وسير الجبال، والحقيقة هي إن كلانا كانا دائخين ونعيش لحظات دوار.. وصلنا إلى “الرما” استقبلونا بعض من أهله بفزع ومخاوف من ردود فعل أهلنا.. استضافونا ساعة زمن، ثم أعادونا إلى أهلنا بعجل..

عانيت في طفولتي من الدوخة والأعياء وفقدان الشهية.. عانيت من ضعف وإنهاك وإرهاق وسوء تغذية.. آلام في البطن تشتد بعض الأحيان، ومغص وبعض اضطرابات معوية تنتابني بين حين وآخر..

أحيانا أعاني من القيء والإسهال وانتفاخ البطن.. أحيانا أشعر بحاجتي للتبرز وقتا طويلا أو معاودة التبرز بعد وقت قصير، ثم لا أرى إلا شيء قليل من الخراج الذي ينز نزا فيه سيلان وقليل من البراز الذي يبدو متعفنا ومخاطيط ورائح كريهة ونافذة، وكنّا نسمي تلك الحالة بـ”أُزه”، ولطالما عانيت منها، كما كنت أعاني من حكة حول المستقيم وفتحة الشرج، ولطالما وجدت ديدان تسعى على الحافة.

كنت أبدو منهكا وأعاني من أمراضي وأحاول التعايش معها، وكان يرجع جلّها إلى عدم توفر الأكل الصحي وقبله الماء النظيف.. في مواسم النزاف ولاسيما الشديد منه كان الغالب على الماء الذي نجلبه من الآبار ونشربه متكدرا ورائحته كريهة، ولا بديل لنا ولا مناص من أن نشربه..

لقد كنّا نعيش صراع من أجل الحياة والبقاء، وكان بعض مما يبقينا على الحياة هو في الوقت نفسه جالبا للمرض أو مسببا له.. أقدار فرضت علينا مشيئتها دون سؤال، وعيش اضطراري مرغمين عليه، وغياب البديل.. “مكرها أخاك لا بطل”.

فقر الدم كان ملازما لطفولتي، أو هذا ما عرفته لاحقا.. وأكثر منه كنّا مستوطنات لكائنات تعيش فينا رغما عنّا.. كنت أشعر أن بطني وأمعائي قد تحولت إلى مستوطنة للديدان كثيره ومتنوعة.. كنت أشاهد الديدان في برازي أكثر من نوع وفيصل، غير أن في إحدى المرات كانت المفاجأة كبيرة فاقت تصوّري وتحمّلي، بل وخيالي أيضا.

***

كان أبي يبتل بمدرج في الجبل، وعمتي أم عبده فريد في مكان غير بعيد، وكنت أنا أقضي حاجتي في مكان قريب منهما.. ذهبت لأتبرز وبدلا من البراز شاهدت شيء يخرج من أمعائي عبر فتحة الشرج.. كائن أبيض يشبه الثعبان.. سألت نفسي في لحظة اضطراب وإرباك: ثعبان يعيش في بطني.. ماذا يفعل وكيف يعيش؟! أنا الأن في لحظة معرّضا للدغه.. لقد عشت لحظات إرباك تفوق خيالي!! جالدتُ نفسي، وحاول حيائي أن يعينني على الصبر.. ولكن ما حدث كان أكبر مني ومن خيالي!

عشت لحظات من المحنة والحيرة والهلع الكبير.. استمريت بزحاري لأخرجه ولكن بدا لي الثعبان يطول، وصبري كان ينفذ، فيما ذلك الكائن العالق مستمرا بالتمدد.. وصل طرفه الأرض وهو لازال متدليا من فتحة الشرج يتمدد ويطول، ولا أدري طرفه الأخر إلى أين يمتد.. تخيلت أنه أكبر من أمعائي.. أعتراني مزيدا من الخوف والهلع والاضطراب..

حاولت أن أتحمل الأمر لعله يكتمل خروج هذا الكائن الغريب ومن دون أن يحدث ما بدا لي أشبه بالفضيحة.. إن صرخت وعرف الناس قصتي ربما تظل تلاحقني بقية عمري، غالبتُ نفسي وكابد حيائي الأمر للحظات فيما لازال هذا الكائن متدليا من فتحة الشرج دون أن ينتهي ودون أن أعرف منتهاه!!

نفذ صبري وفاق الأمر تحملي وخيالي وتجربة طفل لا زال منعدم المعرفة بحالة كتلك، بل لم أعرف أمرا من هذا قد أصاب غيري كبيرا كان أو صغيرا.. لم أمر من قبل بتجربة مماثلة وعلى هذا النحو من الجسامة التي بدت أكبر منّي.. كانت التجربة واللحظات المربكة فظيعة على طفل مثلي..

انطلقت بهلع يسبق الصوت.. أنطلقتُ وأنا أصرخ صرخا متطايرا في كل اتجاه “حنش.. حنش.. حنش…” والهلع يجتاحني من رأسي حتى أخمس قدماي.. صراخي يسبق ركضي بمدى الصوت..

هرعت عمتي بعجل نحوي، وحاولت تستكشف الأمر، وما لبثت أن عرفت قصتي، فسحبت ذلك الكائن إلى الخارج وهي تقول “قلاليط.. قلاليط” لم أكن أعلم بهذا الاسم.. أول مرة اسمع به وبدا لي من تصرفها وهي تهدي من روعي إنه معروف لديها ومخبور.. أستمرت تهدّي من فزعي وهلعي وتهدهد خجلي وحيائي الكبير الذي أستبد بي وكان يشتد مع لحظاتي التي تمر..

شاهدتُ الدودة من قامتي وهي كثعبان على الأرض، ربما يتنفس أو يبدي حركات خفيفة، هدأ روعي وفي المقابل أشتد خجلي من نفسي بما لا سابق له.. أحسست إن خجلي يبتلعني.. تمنيت لحظتها أن تبتلعني الأرض التي أقف عليها حتى لا يراني أحد، وعرفت أنه كان يلزمني قليل من الصبر لأتمكن من التخلص من ذلك الكائن الذي أصابني بالهلع، ثم أسأل عنه وعمّا حدث لي، وأعرف كل شيء بجواب سؤال..

ما حدث فاق سني وتجربتي، وكانت المرة الأولى التي وقعت فيها على ذلك النحو الذي أخزاني وأحسست إن الجبل رصد كل ما حدث لي ورأه بأم عيناه، فيما أبي عرف الأمر وكان يقهقه بصوت زادني خزي وحرج أشد.. إن هلعي وروعي الذي بلغ ذروته تحول إلى لحظات خزي تشبه الفضيحة..

لحسن حظي أن أقراني الأطفال لم يعلموا بقصتي وإلا لكانت فضيحتي على كل لسان، وربما دفعتني للانتحار أو للهروب بعيدا عن قريتي إلى مكان قصي أعيش فيه بعيدا عما عشته ورأيته.. ولكن عندما كبرتُ ووعيت وخبرتُ الحياة بدا لي الأمر عاديا جدا، بل وبأمكاني أحكيه وأكتبه وأسخر منه، وأكثر من هذا تيقنت أن حجم الوعي أو تناميه يمكنه أن يبدِّل نظرتنا لكثير من الأشياء والمفاهيم بما فيها “العيب” الذي لطالما عشناه..

كانت تلك الديدان المتنوعة صغيرها وكبيرها تقتات على غذائي وما في معدتي.. تقاسمني حقي في العيش والحياة، بل وشعرت إنها كانت تقتاتني.. عندما كبرت وقرأت عرفت أن ذلك الثعبان إنما هو دودة “الأسكارس” ويطلق عليها أيضا اسم “ثعبان البطن”، حيث يبلغ طوله تقريباً ٢٧ سم، وتتراوح ذروة الحياة بالنسبة له من عامين إلى ستة أعوام.. أما الساسة الديدان فيطول عمرهم ، وتكون بهم نهاية الوطن كارثية وفادحة..

يتبع..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

زر الذهاب إلى الأعلى