العرض في الرئيسةفضاء حر

الحرب من الداخل .. مأرب بين السقوط والمقاومة (2)

يمنات

ماجد زايد

لا يمكن لأي حرب أن تتفادى الاستعارات والمجازات والتضخيمات العاطفية، طالما وهي عبارة عن مزيج من النوازع الثقافية والمعنوية والأيديولوجية والدعائية، كل هذا بقدر ما فيها من موجودات مادية تتعلق بالسلاح والإمداد والخطط القتالية والتدريب، القادة العسكريون يدركون ذلك جيدًا، ويدركون أهمية التحشيد النفسي ورفع المعنويات المجازية والرأي العام المساند لها، ولأجل هذا وأكثر يحضر المجاز بشدة في خطابات طرفي الحرب المحرضين على القتال، خصوصًا الأصوات الداعية للنفير العام والإستعداد الشعبي لماهو قادم، هذه الإستعارات العاطفية إحدى ضروريات المعارك في سياقها اليومي، وحتى بعد أن تضع الحرب أوزارها، وهي أيضًا رأس المصائب ومصبرها المستمر طويلًا، هؤلاء الإستعاريون المحرضون بشدة من قادة وصحفيون وناشطون وسياسيون يعظمون النصر الخاص بهم، لأنه سلعتهم، ويقللون من شأن الهزائم إن سقطت على رؤوسهم.

ولا تقتصر الاستعارات في الحرب على العبارات والخطابات، إنما تمتد إلى الصور والمقاطع والرموز والأفكار والأغاني والموسيقى والإستعراضات، الى جانب إستحضار الصراعات المدفونة والإستعارة بمدلولاتها المرتبطة باللحظة الأنية، كأن تبعث فكرة الأقيال والعباهلة لتعزيز فكرة إجتثاث الهاشمية السياسية والقضاء عليها، أيضًا إستغلال فكرة الهاشمية كسلالة بمئات الألاف للإستحواذ على السلطة والقضاء على الأخر، ولو تأملتم جيدًا في واقع صنعاء ومأرب، لوجدتم مأرب بيئة خصبة للأقيال وإستدعاءها لمواجهة الهاشميين، وبالنقيض من ذلك صنعاء أيضًا أصبحت بيئة للهاشميين السياسيين وورقة شديدة التأثير في التحشيد والقتال والسيطرة، هما أيضًا نموذجان متناقضان لمدينتان متقاتلتان بوسائل لا تختلف عن بعضهما، وإستعارات تتكرر وتشبه بعضها البعض، وفي الحقيقة هؤلاء المتصارعون بحاجة ماسة إلى المجاز، ليس فقط في الدعاية أثناء المعركة، الدعاية ذات الجرس والإيقاع المدوي الذي يجاري دقات الطبول وأسلحة التدمير، إنما في الادعاءات التي تعقب توقف القتال أيضًا، عندما يبدأ كل طرف في سرد ما جرى من وجهة نظره البعيدة كليًا عن وجهة نظر الأخر، وبالطبع وجهة النظر التي تخدم مصالحه المحصورة، في مسعى برجماتي يهدف إلى إقناع الشعب بها، وتسجيلها في كتب الأحداث..

محمود درويش الشاعر والأديب المعروف تمكن في إحدى قصائده من شرح ذلك حينما قال:
مجازًا أقول: انتصرت
لئلا أقول: انكسرت
لئلا أقول: خسرت الرهان

الواقعية كمصادر منطقية في نقل صورة الحرب المصيرية على حدود مأرب من ثلاث إتجاهات تكاد تكون منعدمة تمامًا للإعلام والصحافة، الإّ أن معظمها تبقى نتيجة تفاعلات وولاءات وصراعات دافعها الحقيقي متمحور حول الإستعارات والمجازات المصاحبة، لا حقيقة منطقية عند أي طرف سوى حقيقته هو، ولا أحداث تجري سوى ما يريد أن يقولها هو، وهذا بالطبع يفرز ما نحن به من رمادية وغموض وتراكم في التجهيل والتحشيد والإنقسام..

القيادات والتجنيد

في مدينة مأرب على مدى عام ونصف قابلت الكثير من المجندين الشباب والمراهقين، بعضهم عن معرفة سابقة، وأخرين نتيجة روتين حياة وإندماج شعبي مع حياة الناس، (ر. ق) شاب لم يتجاوز الثامنة عشر من عمره، تعرفت عليه في أحد أيام المدينة، مراهق بسيط ينتمي لمديرية أرحب، جاء الى مدينة مأرب منذ ما يقارب العامين والنصف، إستقدمه أحد القادة الجدد بالجيش الشرعي، عامين ونصف وهو يعيش في معسكر داخل المدينة دون راتب، عامين ونصف لم يجد منهم ريالًا واحدًا، وخلالها ظل مرغمًا على البقاء في المعسكر يأكل ويشرب فقط، ويتهرب من الرد على إتصالات والدته ووالده بصنعاء، كان في حياته القديمة كبير إخوته ونجل المنزل الإيجار في صنعاء، كان الكبير والسبيل الأخير لديمومة بقاء إخوته ووالديه، كان يقضي أيامه في المعسكر متنقلًا بين الجبهات والمتارس والوعود الكاذبة، مرت الأيام وتبدلت الاحداث وساءت الظروف عليه حتى تأثرت حالته النفسية جدًا، لقد صارت حياته جحيمًا وإنقطاع، هكذا قال لي ذات يوم، وعودته لمنطقته في شملان بصنعاء أصبحت أمنية مستحيلة، ومجازفة بعد تهديدات المحرضين عليه هناك لكنها أمنيته الوحيدة، أمنية الرجوع لحضن والدته الحزينة ووالده المقهور ومنزله المشتاق إليه، هذا الشاب المراهق كان يبكي أمامي بينما يسرد حكايته، أقسم بهذا، كان يتمنى صاروخًا مجهولًا يقضي عليه الى الأبد، هو مجرد ضحية لأحلام رجل مخادع، لقد إستدرجه أحد القادة اللاحقين بجيش الوهميين، هو وعشرين أخرين بدون أن يستطيع تجنيدهم بأرقام عسكرية ومرتبات شهرية، هكذا منذ عامين ونصف، مايزال يتذكر ذلك جيدًا، يوم جاء للمدينة بملابسه وكيسه الأحمر، منذ آتى بأحلامه من صنعاء وحتى اليوم، أحلامه التي لم يستطع شراء أدناها، عامين ونصف لم يتمكن خلالها الشاب من شراء ملابس أخرى غير التي جاء بها، لقد تنازل كثيرًا عن كبرياءه، وبدأ بالبحث عن أدنى عمل لنفسه، تاركًا المعسكر الموبوء بالمخادعين، هكذا يقول لي، لكنه لا يجد، ولم يلتفت إليه أحد حتى بقيمة الطعام والسكن، والده يترجاه في مكالماته ورسائله الفائتة واليومية بأن يرسل إليه بقدر المستطاع، لكنه لا يملك سوى ثوبه الممزق القديم، ولا شيء أخر، في الليل يقضي الشاب حياته مشاهدًا لمسلسلات تركية، أرطغرل وعثمان والدولة السلجوقية، ومسرحيات قحطان، وتفكيره المتراكم مشغول بالخوف من الطائرات المسيرة وصواريخها المفاجئة، لكنه بعد هذا كله لم يعد يخشى الموت على نفسه، هي أمنية واحدة متبقية له، أن يسامحه والده ووالدته لأنه هرب من البيت ولم يخبر أحدًا بمغادرته، لكنه يشاهد ثلاثة من رفاقه بالعنبر وقد فقدوا عقولهم وجنوا بالفعل من طول الإنتظار والصبر واليأس، قال لي ذات يوم، أريد أن أموت، هذا الخوف في رأسي والهم يقتلني الف مرة في اللحظة الواحدة، أرجوك يا صديقي أبحث لي عن عمل، عن أي فرصة، لا أريد أن أصبح شحاتًا، أنا لا أستطيع تقبل ذلك..! لكنني لا أجد شيئًا أخر في هذه المدينة، ولا سبيل للهروب من هنا، مازلت أتذكره جيدًا في ذلك الليل بعد المنتصف حينما جاء اليّ وهو يلهث من الجوع، أقسم أنه كان يذرف الدموع من عينيه..!

هذا نموذج واحد من الاف المقاتلين الشباب المراهقين المستقطبين بغاية شخصية لا تتجاوز الرتبة والرقم البشري الرخيص، أولئك القادة كانوا يستقدمون الشباب من القرى والمدن والأرياف كمجرد أرقام وكشوفات ليجندونهم تحت أنفسهم، ليقودونهم ويصبحون عليهم قادة ورتبًا وبدائل مصروفات، الشخص الذي يستقدم عددًا كبيرًا يصبح قائدًا كبيرًا ذا رتبة مرموقة ومصروفات كبيرة، هذه الحقيقية، شاب أخر أعرفه من صنعاء (ي.م 28 عام) إستقدمه أحد القادة للإنضمام للجيش الجديد، جاء منذ عامين والتحق بالمعسكرات وبدأ بالقتال معهم وأصيب باحدى المعارك في رقبته، بعدها أصبح متروكًا وعاجزًا، لم يعد ذا أهمية وشأن كما كان، أعطوه قطعة أرض صغيرة في مخيم الجفينة ليبني لنفسه غرفتين في مخيم المدينة، وبالفعل بنى لأسرته بيتًا هشًا بلا أدنى ضرورات الحياة، وبدأ مصيره فيه مع زوجته وعياله، قابلته إحدى المرات، كان رثًا منهكًا محطمًا مستحقرًا وغريب، لم أتوقع قط ما حدث له، يومها تذكرت ماضيه، وكيف كان في بيته بصنعاء معززًا مكرمًا عاملًا بمستوى محترم، لكنه الخداع والإستجداء الكاذب للشباب، ذات يوم حلف لي برأس عياله وقال: والله العظيم يا ماجد لو تموت لأجلهم هانا ما توصل لمستوى ورتبة الشخص المنتمي لهم تنظيميًا..! وحديثه هذا إشارة لجنود القوات الخاصة المنتمية بالضرورة للتجمع اليمني للإصلاح..

قوات تنظيمية

قوات الأمن المركزي الخاصة، أْسِست كجناح عسكري يتبع فعليًا سلطة الإصلاح بمأرب ، قوات مدربة ومجهزة ومدعومة ومؤذلجة عقائديًا، وحصرية للشباب المؤهلين تنظيميًا وفكريًا، معظم شباب هذه القوات من ريمة وحبيش والعدين وتعز حيث المناطق المناوئة مذهبيًا للطرف الحوثي، بعكس شباب المناطق الشمالية المندمجين فعليًا مع الفكر الزيدي والتواجد الحوثي، القوات الخاصة في مأرب هي جناح الإصلاح وثقلها العسكري الحقيقي.. وهي القوة الضاربة المسيطرة على مفاصل المدينة ومديرياتها، وهي بالفعل المدافع الحقيقي عن المدينة.. ومن ناحية أخرى، مثلت قوات الأمن الخاصة بمأرب مصدر خلافات وعداوات وإتهامات متكررة ومتنامية بين القبيلة ومشائخها وبين التجمع اليمني للإصلاح..

العرادة شخصية القائد وتوازن القوة

ذات يوم، وصل العرادة بسيارته الى حشود بالشارع العام وسط المدينة، حشود تستقبل العائدين من صفقة الإفراج، لم يكن أمام العرادة يومها طريق أخر للعبور ولا طريق خلفي للعودة، كانت الجماهير تحيط به وتهتف له وتشير اليه، أوقف سيارته في المنتصف وفتح بابها وصعد على متنها يحيي الجماهير ويخاطبهم، يومها جعل من سيارته منصة لمخاطبة الجماهير..!

كانت معنى أخر للقيادة، وعشقًا نادرًا لعشق الجماهير، اللواء سلطان العرادة، محافظة محافظة مأرب، رجل مفصلي في حاضر المدينة ومجرياتها، وقائد من واقع البداوة ودهاء السياسة، وهو بمثابة رجل من عهد صالح وصاحب رتبة عسكرية، هذا الرجل حال منذ سنوات دون إنهزام المدينة، وتصارعها البيني، هذه حقيقة واقعية عن المدينة، لا أحد ينكر أبدًا الخلاف المدفون بين تنظيم الإصلاح المسيطر على تفاصيل السلطة في مأرب مع قبائل وبدو مأرب، ولكن العرادة كشخصية لها ثقلها القبلي والعسكري حال دون ذلك، وأنتج وجوده توازنًا عميقًا بين كفتين وقوتين متناقضتين، ولولاه كانت المدينة قد تداخلت جدًا في خلافاتها وصراعها الداخلي، خصوصًا مع ثروة المدينة النفطية، الثورة المقسمة بالتراضي بين شيوخ القبائل وسلطتها السياسية والامنية، في مأرب منذ سنوات تمت التسوية بين القوتين على إساس تقاسم النفوذ والسلطة، كان الإتفاق بينهما مبني على عدم تدخل الإصلاح في ثروة النفط والغاز وإنتاجهما وبيعهما، وبالطبع مقابل حصوله على حصته المخصصة، مقابل بقاءهم كسلطة تحكم المدينة وتتصدر الواجهة، كان الإصلاح يعي أهمية السلطة الداخلية ويعلم جيدًا تعقيدات الصراع الجاري على النفط، هذا التعقد أرغمهم على تفادي نشوب أي صراع في الوقت الحالي منتجًا إنسياقًا أخر خلف فكرة ضمان الإستحواذ الجغرافي وحمايته من المهاجمين، خصوصًا وعدوهم الأكبر يصارع الجغرافيا للوصول إليهم كل يوم، الشيخ سلطان العرادة في مأرب كان سر الإتفاق والتقسيم، ووجوده مثل التوازن الفعلي بين القوة والموارد والقبيلة، وبالفعل لو لم يكن هذا الرجل حاضرًا في هذا الظرف الزمني المعقد كانت المدينة قد سقطت منذ سنوات، نتيجة الصراع الداخلي، ونتيجة الضغط العسكري على الارض والتناقض السياسي الأقليمي حول سيطرة الإصلاح على المدينة، بغض النظر عن سقوط الإنهزام أمام قوة الحوثيين الزاحفة فيما لو حدث..

لعبة الخلايا

بمجرد تجولك في المدينة، ستصادق لافتات كبيرة وصغيرة ومنتشرة بمعظم تفاصيل الشوارع والحارات، للتحذير من الخلايا الحوثية المندسة بالمدينة، هذه الفكرة أرقت كاهل السلطة المحلية وأثقلت كاهل الخطباء وأئمة المساجد، ذات يوم كان صعتر يخطب في مسجد وسط المدينة وبالجوار منه مسجد أخر يخطب فيه فؤاد الحميري، كانا يصرخان بقوة ويحذران بشدة من خطر الخلايا الحوثية المختبئة في أوساط الناس، ولأجل هذا أعتقلت وأحتجزت قوات الأمن السياسي في المدينة مئات الدراجات النارية، ومئات الباصات الصغيرة، ليثبت مالكوها برأتهم من تهمة الإندساس عبر تقديم معرفين وضامنين شخصيين لهم، كان الأمر أشبه بإعتقال شعب كبير دون أدنى تهمة، فقط لمجرد الشك والخوف والشعور بالخطر.. هذه القبضة أفرزت خلوًا نهائيًا لأي أصوات أخرى من شأنها التفكير بالمعارضة السياسية في المدينة، هذه الأصوات تدرك جيدًا بأن تهمتها معدة مسبقًا، وهو الإخفاء القسري الطويل والبعيد.. ومن ناحية متصلة، لو لم يتم تفادي خطر الخلايا الموجودة بالمدينة، كانت الحرب ستأخذ منحًا أخر في سياقها على الارض..

جغرافية المعارك

على خط سير المعارك المحيطة بمأرب، يحتدم القتال في خمس جبهات مفتوحة، وثلاثة إتجاهات نارية، لشهور فائتة ظل القتال يشتد ويشتد والمقاتلون يطوقون مأرب أكثر مع مرور الوفت، ويتوافدون بالمئات ليصبحون بالالاف مع تفاقم الحصار الجغرافي على المدينة، الهجوم الشرس على المدينة مفتوح على مصراعيه من ثلاثة إتجاهات، صنعاء والجوف والبيضاء، ومعه ظلت قوات الأمن الخاصة تقاتل في كل هذه الإتجاهات والجبهات، ومع هذا فإن كفة القوة دائمًا تكون في جانب المهاجم، فمن لا يهاجم ينهزم بالضرورة، المدافع لا ينتصر أبداً.. الدفاع يعني تلقى ضربات المهاجمين.. وهذا منطقيًا يجعلك في النهاية مهزومًا.. لكنك لم تمت بعد.!

في فبراير الفائت كان هناك هجومًا مفاجئًا بطريقة أذكى وأسرع مستغلًا إنشغال قوات الشرعية في معاركها ببقية الجبهات المفتوحة الأخرى، كانت نقطة الهجوم بإتجاه جبل البلق الغربي أو الأوسط وجبل البلق الشمالي أو القبلي، وهما جبلان محاددان لسد مأرب وقريبان من مناطق الأشراف الموالية ضمنيًا لقوات صنعاء (الحوثيون)، وجغرافيًا تْعد هذه المناطق المرتفعة هي الأقرب باتجاه مأرب والسيطرة النارية لغرب المدينة تكون للمستحوذ الفعلي عليهما، معركة البلق نموذج متكرر عن ميكانيزم الحوثيين في إشغال الطرف المدافع للإختراق من مناطق جديدة، هذا ما حدث في البلق وفي الكسارة وفي كثير من حروبهم على مأرب بدءًا من نهم ومرورًا بالجوف ومركزها وصولًا حتى جبهات مأرب الغربية (الزور، السد، البلق، الطلعة الحمراء، المشجع، جبل هيلان، العطيف، أم الخنازير، عودان، تبة ماهر، جبال الخشب) كذلك جبهات مأرب الشمالية (الكسارة، الفرع، ملبودة.. الخ)

ملحمة البلق

الخامس والعشرين من فبراير، كانت المعارك مشتعلة ومحتدمة وعلى أشدها في خمس جبهات مفتوحة وثلاثة إتجاهات فعلية، كان القتال يشتد ويشتد والمقاتلون يطوقون مأرب أكثر وأكثر ويتوافدون بالمئات ليصبحون بالألاف مع تفاقم الحصار الجغرافي على المدينة، يومها كان الهجوم الشرس مفتوح على مصراعيه من ثلاثة إتجاهات، صنعاء والجوف والبيضاء، ومعه كانت قوات الأمن الخاصة تقاتل في كل الإتجاهات.

مع غروب شمس ذلك اليوم الجمعة، أعتلت قوت صنعاء (الحوثيون) وسيطرت على البلق الغربي وتمكنت من إلتقاط صور للمدينة، أبو محمد شعلان في ثنايا زياراته وحركيته بين الجنود والمقاتلين آنذاك علم بالإختراق الخطير، أخذ نفسه ومرافقيه وذهب للمكان، كان المقاتلين هناك في حالة صدمة وتراجع وعزيمة منهزمة.. لقد سقط الجبل، لقد تمكنوا منا، لم نتوقع ما حدث، لم نكن سوى بضعة مقاتلين أمام تيارات بشرية تقاتل بشراسة لم يعهدها أحد، لم يتأثر شعلان من شعور الإنهزام والخوف في نفوس مقاتليه، أخبرهم بأن إستقدام قوات مساندة في هذه اللحظة فكرة لن تحدث، الأمر أسرع من مكالمة وإستجداء وإتباتات للقيادة، أخبرهم بأن الحرب على عاتقنا، لنقاتل بما نملك، أخذ نفسه وسلاحه وتبعه مقاتلوه وصولًا لمناطق التماس المنحدرة والقريبة من مرتفعات الجبل، كان قائد عملياته “الحوري” قد قتل في مترسه، ترجل شعلان وقاتل في مكانه، قاتل بسلاحه الشخصي، وقتل في ذات المكان، ومرافقوه يراقبونه من متارسهم المتأخرة، قتل الرجل وتراجع المرافقون أمام قوة النار المصوبة تجاههم، وصلت قوات صنعاء وسيطرت على المكان وجثث شعلان وقائد عملياته الحوري، في البدء لم يعلم مقاتلوا الحوثي أن هذا الرجل الذي بحوزتهم قائدًا مطلوبًا وسببًا حقيقيًا لإشعال الحرب على مأرب، أبو محمد شعلان كان أبرز الذين يطلبهم الحوثيون من مأرب، ورأسًا لداعي القبائل وتحشيداتهم في الشمال جراء عملياته في مناطق الأشراف وخلايا المندسين في المدينة، بعد ساعتين علم بعض المقاتلون هناك أن الرجل قائد القوات الخاصة من رسالة ببزته العسكرية، وفي الحال أعلنوا قتلهم لقائد القوات الخاصة بمأرب وإستحواذهم على جثته، كانت سلطة مأرب ومقاتليها مفجوعون جدًا من مآلات مقتل شعلان، كانت الصدمة أبلغ من الحديث عنها وجثته لم تزل بعد في متناول الطرف الأخر، وفي الحال كذّبوا الأخبار وأعلنوا أن قائد القوات الخاصة مازال بخير ولا صحة للأخبار التي تتحدث عن مقتله، كان الأمر تلافيًا لحالة التوسع المخيف لنفسية الإنهزام كتلك التي حدثت بعمران بعد مقتل القشيبي، وبالفعل وقع الحوثيون في فخ النفي الرسمي بمأرب، وتجاهلت أجهزتهم الإعلامية وناشطوها خبر قتل شعلان الى حين تأكيده، بين هذه اللحطتان الزمنيتان المتلاحقتان، لحظة القتل والتأكيد، شنت قوات الأمن الخاصة مسنودة برغبة الإنتقام والثأر لقائدها ومصحوبًا بعشرات الطائرات المحلقة والحاملة للصواريخ الحارقة، كانت الحرب بعد منتصف ليل ذلك اليوم حربًا شرسة وبشعة ومدوية، عشرات ومئات الغارات، عشرات المدافع والصواريخ المنطلقة من داخل المدينة صوب البلق، كان المساء يومها نارًا على الجميع، وجنونًا لا يوصف من حالة الهجوم الإنعكاسي لقوات الأمن الخاصة، مع فجر ذلك اليوم إستعادت القوات الشرعية جبل البلق وجثث قادتها ومقاتليها وتراجعت قوات صنعاء الى أسفل الجبل باتجاه منطقة الزور الشرقية، بعدها أعلنت مأرب إستردادها للجبل وسيطرتها على المرتفعات المطلة على المدينة، ونعت قائد قواتها الخاصة، صباح ذلك اليوم لم تكن قوات صنعاء الميدانية تعلم بسقوط البلق من أيديهم، كان على ما يبدو خللًا في إتصالاتهم وتواصلهم على الارض، صبيحة السبت السابع والعشرين من فبراير جهزت قوات صنعاء كتيبتها المخصصة لإجتياح مأرب، كانت أعدادهم تتجاوز الثلاث مائة مقاتل بينما يرتدون بزات عسكرية مطابقة لبزات قوات مأرب الخاصة، كانت كتيبة من ذروة المقاتلين وأشرسهم وأكثرهم إعدادًا وتدريبًا، بعد ظهيرة ذلك اليوم إلتفت هذه الكتيبة من جبل البلق الشمالي مع ظنها بأن لديها تغطية نارية من أعلى جبل البلق، وبالفعل مرت القوات ونجحت الخدعة والمخطط، وأجتاحت المناطق وتقدمت دون مواجهات، كانت بالقرب من المدينة وإجتياحها، حينها حدث مالم يكن بالحسبان، أحد ضباط الشرعية في جبهة البلق أخذ جهاز الإتصال وصرخ وقال: تلك القوات المتجهة صوب هيئة مستشفى مأرب العام من الخلف ليست حليفة، تلك قوات متنكرة، تلك قوات متنكرة، تلك قوات متنكرة، إستجابوا لصراخه، وتأكدوا من هوية المتقدمين، وبلغوا طيرانهم المساند، كان المقاتلون يسيرون جوار بعضهم، كانوا متجمعين بالقرب من أنفسهم، ولم يكونوا متفرقين أو متباعدين، كان الأمر أشبه بالطعم الجاهز، جاء الطيران مهووسًا بالقتل والخوف، كانت صواريخه على المقاتلين تحرق مافي المكان ولا تترك أي شيء على قيد الحياة، قتل جميع أولئك المقاتلين بطريقة بشعة جوار بعضهم وممسكين ببعضهم، كانت تلك اللحظة من هذا الزمن لحظة دامية وبشعة ومخيفة لكنها الحرب وطقوسها الغرائزية المرعبة..

الندية وسياسة السعودية تجاه الإصلاح

بعد معركة البلق الفاصلة، أدركت المملكة السعودية خطورة الوضع، وتداركته بموقف متقدم، وأرسلت ناطق تحالفها العربي “المالكي” لزيارة مأرب والظهور معه بصورة عند سد مأرب مع محافظة المدينة اللواء سلطان العرادة، هذا الموقف كان رسالة تقول في سطورها أن السعودية لن تتخلى عن مأرب وستحارب فيها كند حقيقي لمواجهة الخطر المتقارب، هذا الموقف المتقدم أتى بعد مقابلة العرادة مع مركز صنعاء الذي أعلن فيه عن خسائر الحرب وإمكانية سقوط المدينة، اللقاء الذي قال فيه بصدق: لولا المملكة العربية السعودية لسقطت المدينة..!

السعودية ايضًا تسعى لإضعاف تجمع الإصلاح سياسيًا وعسكريًا من خلال إيقاف رواتب المقاتلين في العديد من جبهات مأرب، وخفض مستوى الدعم العسكري واللوجستي، بالإضافة لتنفيذ حملات إعلامية تشويهية في الكثير من الصحف والمواقع السعودية أو المحسوبة عليها مستهدفة الإصلاح ومتهمة إياه بالتقاعس في حربه مع الحوثيين. وفي بعض الأحيان تتهمه بعقد اتفاقات سرية مع الحوثيين، هذا الإضعاف في الواقع جعل الإصلاح عاجزًا عن الإعتراض على سياسة المملكة، ويرغمهم بالمواجهة المستميتة كطريق إجباري ووحيد، ومعه سيتحول كيان الإصلاح إلى التبعية الكاملة لها، خصوصًا بعد أن استحوذت على قرارات الحكومة اليمنية ورئيسها المتواجد في الرياض.

صافر وإشتعالات النفط

النفط والثروة النفطية هي مربط القتال والإستنزاف الحقيقي، هي دوافع إهلاك الحرث والنسل والبشر، ولولاه لما حدثت المجازر البشعة في جغرافيا قاسية ووعرة وشاقة، النفط والغاز هو الغريزة البشرية المهلكة لحياة اليمنيين، وهي السلعة المغرية لديمومة السلطة بشكلها المتمترس أيًا كانت، هذه الثروة النفطية لو كانت مدفونة في صنعاء أيضًا لحدث هذا الصراع على حدود صنعاء، ولو كانت صنعاء تملك آبار نفط ما سقطت منذ أول أيامها، لكنها المطامع والمخططات والنوايا الضيقة، تقع مصفاة صافر شرق محافظة مأرب، وتحيطها مئات المتارس والتحصينات المجهزة بإمكانيات مرتفعة، في خط السير بين مأرب وشبوة ستشاهد ملامح الناقلات المحروقة على جانبي الطريق، سيخبرك سائق السيارة بأنها ملامح عن إستهدافات لناقلات النفط قام بها قبائل غاضبون من سلطة التقاسم خلال السنوات الأخيرة، بوصولك لصافر سترى شعلات النار المرتفعة… في ذلك اليوم، عندما مررت بجوار حقول صافر النفطية والغازية.. كانت شُعل النار الكبيرة جدًا والكثيرة أيضًا تتباهى بعظمتها وكبرياءها صوب السماء كأنها تصرف رواتب اليمنيين وتغطي حاجاتهم وحياتهم، لم تكن تعلم تلك النار المشتعلة والمحتكرة بينما ترتفع كل يوم حتى السماء أن إيراداتها وثروتها وخزائنها لا تتجاوز حدود السلطة الخرسانية الضيقة جدًا.. لم تكن تعلم أبدًا أنها سببًا وحيدًا لموت عشرات الألاف من الشباب اليمنيين يوميًا..!

طيران محلق، وصواريخ باليستية

يستهدف الحوثيون مأرب بصواريخهم البالستية وطيرانهم المتحرك، يراقبون المدينة من السماء ويقصفونها من الارض، في رسالة يومية مضمونها: نحن القوة والسلطة والحاكمين، وبحسب التقارير والمراقبين وتواجدي هناك، فإن الصواريخ البالستية لا تخطئ أهدافها، ومعظم الإستهدافات تكون لمناطق عسكرية وأمنية وبعيدة عن مساكن المدنيين، ما عدا صاروخ واحد سقط على ورشة ميكانيكية أودى بحياة شخصين، هذه الدقة الحوثية بخلاف ما يجري بتعز ومناطق الصراع الأخرى .. ولكنها في مأرب مؤرق حقيقي وهاجس يبعث الخوف على مدار الساعة، ولأجل تفاديه أقام الموظفون الأجانب لأنفسهم غرفًا محصنة ومدرعة من الصواريخ، للحيلولة دون سقوطهم كضحايا في حال تدهور الصراع وساءت التوقعات.. أيضًا لن تصدقوا لو أخبرتكم أن البعثات الإنسانية هناك تأخذ تصريحات للتنقل الميداني في المدينة من طرفين، سلطة مأرب وسلطة الحوثيين بصنعاء، في تفادي واضح لإمكانية إستهدافهم بالطيران المسير من قبل الحوثيين، وهو ما حدث فعليًا ذات مرة حينما تجاهل الفريق الأجنبي أخذ تصريح من صنعاء للوصول بسياراتهم الى مديرية مدغل، يومها بعد دخول فريق الأجانب للمستشفى فوجئوا بصاروخ جوار سور المستشفى ورسالة نصية قالوا لهم فيها، هذه المرة مجرد تحذير، والمرات القادمة سيكون الصاروخ على رؤوسكم..!

نظرة مستقبلية

هذه النظرة المرتبطة بالمستجدات القادمة والأحداث المتسارعة قالها يومًا “ماجد المذحجي” المدير التنفيذي لمركز صنعاء للدراسات، في ختام زيارته الميدانية لمأرب وجبهاتها، وهي في الواقع خلاصة الحقائق وأكثر التوقعات السياسية القريبة من المنطق وفق المعطيات على الأرض، يومها قال المذحجي في تقريره الشهير:
انتصار أي من الطرفين في معركة مأرب سيكون نقطة تحول في حرب اليمن. من شأن انتصار الحوثيين أن يعيد صياغة اليمن بشكل جذري ويمنحهم سيطرة شبه كاملة على المحافظات الشمالية، والأهم من ذلك، الوصول إلى موارد البلاد من النفط والغاز والعائدات التي ترافقها. كان الحوثيون يحلمون بمثل هذه المكاسب منذ بداية هذا الصراع الذي امتد لسنوات. وعلى الجانب الآخر، فإن هزيمتهم في مأرب بعد استثمارهم فيها بالتجهيزات والمقاتلين سيمثل انتكاسة رئيسية لهم. أحد الأمور التي يجب عليهم أن يقلقوا بشأنها نتيجة فشلهم في الاستيلاء على مأرب هي صورتهم كقوة عسكرية باطشة سواء أمام جمهورهم أو خصومهم، وليس فقط داخل اليمن بل أيضًا خارجها. المجتمع الدولي يراقب معركة مأرب باهتمام إذ أنه يدرك أن النتيجة، بطريقة أو بأخرى، ستشكل مستقبل الحرب والسلام المحتمل في اليمن.

ماجد زايد
كاتب يمني وناشط سياسي
1 مايو 2021

زر الذهاب إلى الأعلى