العرض في الرئيسةفضاء حر

من ارشيف الذاكرة (9)

يمنات

أحمد سيف حاشد

اعتراف وبوح

(21)

“9”

بوح -1-

• في عدن حالما كنت طالبا في الجامعة كنت أيضا مسؤولا حزبيا في “حوشي” عن خلية حزبية مكونه من طالبتين جامعيتين، وطالب، والرفيقة زعفران وهي مناضلة يشار لها بالبنان.. مناضلة لم يسحقها التعذيب في سجون الشمال إبان عهد سيء الذكر محمد خميس.. زعفران لم تُذل لسلطة أو تستسلم لإرادة جلاد.. ولدت في السجن وقاومت جدرانه وجالدته بصلابة الفولاذ.. لم تنحنِ ولم تنكسر رغم أن الجلادين أطاحوا بأسنانها، وألحقوا بها ضررا بالغا في عمودها الفقري.. تحملَّت من التعذيب ما لا يقوى على تحمله أكثر الرجال ثباتاً وصلابة.. من قال إن المرأة دون الرجل؟! زعفران التي عذبوها بصنوف التعذيب لم تخضع لمشيئة القائمين على التعذيب، ولم تخار قواها أو تلين، ولم تستكين أو تعترف بأسماء رفاقها حتى عندما أتوا بزوجها إلى أمامها دامياً ومثقلاً بالتعذيب ومثخناً بالجراح.

• كانت يا هيفاء أختك الجميلة والمخطوبة لقريب لكم ضمن قوام تلك الخلية.. لم أكن أعرف أن لك أخت بجمالك وروعتك.. كنت أعامل أختك بمثالية قديس.. كنّا كبار يا هيفاء كبر تلك المبادي السامية التي تعلمتها من مسؤولي الحزبي جازم العريقي مدير مكتب أحمد علي السلامي عضو المكتب السياسي..

• جازم مسؤولي الحزبي النبيل الذي سأظل أفاخر فيه ما بقي من أيام حياتي.. جازم رجل قدوة ومثال ولا يخلوا من الاستثنائية والعظمة.. أكثر من تأثرت بنبله واخلاقه وسلوكه ورهافة حسه هو جازم العريقي.. ترك كثير من بصماته حية ولا زالت حاضرة في حياتي إلى اليوم تنبض بالنور، وستظل كذلك حتى آخر يوم أغادر فيه هذا الوجود..

• جازم رجل عظيم.. العظماء كثيرون، ولكن أكثرهم يبدو أنهم محكوم عليهم أن يظلوا مجهولين إلى آخر الزمان.. الظروف هي من تبرز البعض وترفع شأنهم إلى العنان، فيما تترك أغلبهم في القاع دون عون أو مساعدة يعيشون سوء الحظ وعاثرة ومعاكسته وخيبته؛ ولكن بقاءهم في القاع هو في الحقيقة لا ينتقص من عظمتهم وجلالة قدرهم، بل هم أكثر عظمة ممن أخذت الظروف بأيديهم وبلغت بهم مشارف الشهرة والرواج..

• قبل أن تلتحقين بالكلية يا هيفاء كنت أتوقع أن ثمة حلم جميل سيأتي ويزاملني في الدراسة.. كنت أشعر أن بذرة حب سأزرعها تحت مفرق رأسك أو في تلافيف الوعي وثنايا الوجدان ومعاطف الروح وأعماق الذاكرة..

• أول ما شاهدتك في باحة الكلية لم أتريث ولم يمهلني الحب أسبوعا.. تسلل إلى دمي والوعي كخمرة أثملتني خلال ثلاث أيام واستحوذت على كل كياني.. حبك تضاعف سريعا حتى ابتلعني من ساسي إلى رأسي وفي حبائله ماتت حيلتي وأنقطع النفس.

• قطعاً كنتِ تلاحظين وجلي وخجلي وارتباك تفاصيل وجهي والجسد إن تقابلنا أو تحدثنا في لقاء عابر.. ألم تسألين نفسك يوما ما سر هذا الارتباك الذي كانت تحس به الحجر والشجر والتراب الذي أقف عليه؟!.. هل كان غباك فاحش إلى ذلك الحد الذي لا يرى اضطرابي الذي كان يشبه حال شجرة في وجه إعصار أو عاصفة!!

• كنت أبحث عن حدوث صدفة كونية في أعماق وجداننا تلتطم أو تصطدم عواطفنا على نحو يشبه الانفجار الكوني العظيم ولّاد هذه المجرات والأكوان والخلائق والحياة.

• كنت أحلم بك يا هيفاء مرارا .. أستحضر روحك كل ليلة كمن يستحضر أرواح من غيبهم الموت عنا، لأبلغك رسائل وجدي واشتعالاتي وما أخبوه من سر يشبه سر هذا الكون العظيم..

• حاولت أستخدم حواسي السادسة والسابعة والعاشرة لأبلغك بعض ما يجيش لك من حب لا يحتمل يشب في صدري كالبراكين، ولكن في غمار المحاولة اكتشفت أنني معطوب أنا وكل حواسي.. شككت في قدراتي وحواسي الخمس، ومحاولة كشف ما عداها وجدته عبث كالباحث عن ماء في سراب الصحراء المجدبة التي يفترسها القيظ والموت غير المنقطع..

• خانتني الحواس يا هيفاء، واستعمرني الخجل والخوف من رفضك البادي إن صارحتك بحبي الذي لا يحتمل.. سيسحقني رفضك المعلن كقرطاس تحت دكاكة الإسفلت، أو كزجاج ليس بمقدور إلا التطاير نثارا أمام غضب الطبيعة وعنفها القاهر؛ فآثرت أن أنتظر وأعيش وهمي وآثرت السلامة والانتظار وأنا المغامر، وغرقت بالتمني بدلا من المحاولة، وكانت العاقبة خيبة كونية وفشل ذريع..

“10”

بوح -2-

• الفقر يسحقنا كل يوم يا هيفاء.. لم تعد للطبقة الوسطى وجودها الوازن .. صار المجتمع منقسم بين أغنياء فاحشين الثراء شرهين على التملك والكسب السريع والغير مشروع .. وبين معدمين وفقراء مسحوقين، وموظفين بدون رواتب، ومجاعة تأكل الصغار والكبار، موت يتربص بنا كمجنون منتقم، يحلِّق فوق رؤوسنا كل يوم، ويستلذ بأشلاء أطفالنا، ويستمتع بما يلحقنا من دمار وخراب وتجريف للأخلاق والقيم والمعايير.. إنه عنوان لمرحلة غارقة بالدم والبارود، والمآسي العراض.. لا سبيل لهروبنا من وحشية هذه الحرب يا هيفاء إلا أن نحب، أو نلوذ فيما يمكن أن نتذكره من ذكريات الحب في زمن بدا لنا مقارنة بهذه الحرب أهون إن لم يكن على سوؤه هو الزمن الجميل..

• شبح الموت يخيم على وطن منكوب بنخبه وساسته، ونهايات سوداء تقتحم حياتنا إجمالاً وتفاصيل.. هروبنا يا عزيزتي من الحرب إلى ذكريات الماضي ما هو إلا هروب أعزل في مشهد دامي ومحكوم بالبنادق والرصاص والقذائف والطائرات..

• نخب حاقدة ومريضة ياهيفاء، وأطماع أنانية مفرطة تعتاش على الكراهية والأحقاد والحرب، وتِحوِّل المجتمع الواحد إلى شظايا قنبلة..

• لم يعد يا هيفاء من أمل يستدعي الانتظار لفرح.. هروبنا يا عزيزتي للماضي مقاومة للموت وحيلة لا نملك منها إلا القليل، ومحاولة للاحتجاج في وجه الموت الداهم كالوباء.. إنه شرف المحاولة بعثا لحياة أراد أوغاد السياسة وأدها حية تحت الركام الكثيف والأنقاض الثقيلة.. إنه هروب مقاوم للموت والحرب والخراب والكراهية.

• نقاوم الموت بذكريات الحب وقد تعديت الخمسين بأربع، وكنتِ في زحام الذكريات حضور كثيف يشبه استحضارها لحظة نزول وحي على نبي.. نزف العمر يا عزيزتي ولم يبق لنا إلا نتف منه أو بعض من قليل.

• وطن أثقله الساسة المعرصين والأوغاد والمنتقمين من بعضهم ومن الوطن، والارتماء بدون بصر إلى أشد المستنقعات وحلاً وقذارةً، والإيغال في الخيانة التي نكبت وطن، وألحقت بحاضرنا والمستقبل أكثر مما هو كارثي وفادح.. وطرف تضخم حتى بدا له التاريخ والجغرافيا والمجتمع في قبضة يده.. أشتهى وأنقلب على كل شيء بما فيها على ما كان يدَّعي، وأدخلنا مع غيره عالم من الدم والدمار والمجهول، وأراد أن يعيد التأريخ إلى أوله.

• أنا الأعزل يا عزيزتي في زمن الموت والحرب والخراب، لذت منكوبا إلى ذكرياتي بحلوها ومُرّها ولم أجنِ على أحد حتى بات حالي مثل حال ابو العلاء المعرِّي الذي أوصى أن يكتبوا على قبره: ” هذا ماجناه أبى علىَّ.. وما جنيت على أحد “.

“11”

بوح -3-

• كنت يا “هيفاء” أغير عليك دون أن تعلمين أو يعلم أحد.. كنت أغلي في مرجل واكتم صوت غلياني في أعماقي حتى لا يسمعه أحد.. كنت أعيش وحدتي وأتظاهر بسكينتي التي كانت تزيد من وقع العذاب.. كانت وحدتي تعيش صراع محتدم داخلي كأرض تحت قشرتها غليان بركان.

• لقد أحسست يا “هيفاء” أنني صرت جلاد وسجّان وأنا أحبس جماح حبي المتأجج في مدفني العميق، وأقمع مشاعر غيرتي بقسوة جلاد، وأصفد شياطيني بقيود من نار وحديد..

• صحيح أنني كنت أنانيا إلى حد ما، ولكن كنت أشعر أني الأكبر والأوسع تضحية وأنا أكبل غيرتي وألجم جنوني المحتدم.. ولم تبلغ غيرتي وعُقدي يوماً حد التفكير في فرض الحجاب عليك، وضرب البُرقع على وجه الشمس أو أسدل سواد الموت على وجه القمر.

• كنت يا “هيفاء” إذا غبتِ يوما، ولم أشاهدك فيها أشعر بانفلاتي إلى قاع الجحيم.. أشعر أنني أخسر عام من حياتي.. هدرت العمر في محرابك معذّب بالحب ومصلوب وخائب، وكنتِ أنتِ عمري المفقود وذاكرتي الممهورة بالفقدان والأسى العميق.

• كنت اراك بكوكب زحل وما بعده، فيما أرى نفسي غارق تحت قاع المحيط، وبيننا من موانع الاجتماع أكثر من ألف مستحيل.. كنت أشعر أن رفضك لي سيكون قاتلاً بلا شك، ولهذا كنت صامت وكتوم وغارق في الوهم والتمنِّي.

• عمري مثقل بالتعب يا هيفاء.. أكل الحزن منه والغياب ما أشتهى، وضاع مني الحلم الجميل، ورغم ذلك لازلت أنبض بالحنين والذكريات، وأحاول أن أستعيد بعض من عمر هرب منِّي ولم أدركه لأبوح له بأشجان لها طعم النبيذ المعتق بالسنين الطوال..

• إن كان من غبي فهو أنا المملوء بالخيبة.. الحب قدر ليس في قبضة أيدينا ولا نملك أمر عليه ولا سلطان.. نعمة النسيان عندي، ولديّ من النسيان ما يكفي أن أغفر لقاتلي، فكيف لا أغفر لمن أحببت ومن كانت معذبتي، ولدي من الغفران ما يتسع لجميع أهل الحب في الأرض المثقلة بخيبة المحبين.

“11”

بوح هيفاء

بعد ربع قرن من العمر باحت هيفاء بما لا تبوح ..

• لم أكن أعرف بإحساسك ناحيتي.. لم أكن اعرف بمشاعرك نحوي.. أنا انسانه بسيطة جداً، وكنت انظر اليك باعتبارك قدوة في الجانب العلمي.. حاجه كبيرة جدا.. لم يخطر ببالي انك معجباً بي.. كنت اسمع عنك الكثير واهابك واقدرك.. كنت اشعر أنك تحترمني ولي منزله عندك بسبب مكانة والدي وعائلتي لديك.. اكثر ما لفت نظري لك تفوقك وخجلك.. اشتغلنا مع بعض بأسبوع الطالب الجامعي.. كنت احس بشخص مرتبك ومتردد وخجول.. كنت أعتقد أن هذا طبعك في التعامل وبالذات مع النساء.

• اخبرتني اختي إن كنت أحتاج شيئاً أو إجابة عن سؤال متعلقا بدراستي أطلبه منك، وكنت أتردد وأحجم عن الطلب تجنبا لذلك الخجل والارتباك الذي أراه عليك.. كنت أعتقد أنني أثقل عليك.. وكنت أرجع خجلك وارتباكك لطبيعتك فحسب..

• اتذكر يوم وقوفي اقرا المجلة الحائطية في الكلية.. لفتت نظري قصيدتك وقرأتها لكن لم يخطر ببالي اني كنت ملهمتك..

• سألت عنك وقيل لي بانك متزوج ولديك اسرة واطفال، ولم أكن أعرف أنك عازبا، وهذا أيضا جعلني لا أفهم سر ارتباكك غير إرجاعه إلى طبعك في التعامل مع النساء وأفكر أنك لا تكن لي أكثر من مشاعر الاحترام.

• اظن انك لو بحت لي بما كنت تشعر به كانت حياتي ستتغير كثيرا.. لقد ظللت ابحث عن حب يروي عطش روحي ولم اجده.. ربما لو قرأت قصيدتك وعرفت أنني موضوعها أو اهديتني اياها كانت تغيرت الاحداث كلها.. لم أكن ادرك انك تحبني.. كثير ممن كانوا حولي كانوا يتقربوا مني وبعد خطوبتي ابتعدوا.

• انت من كنت تملك اللسان يا صديقي؛ فالقدر اصم وابكم ويمكن هو اختار لك ما هو أفضل..

• كانت زميلتي “هدى” تقول لي عنك: هذا الشاب يهيم بك.. وكنت اقول لها مستحيل، هو رجل متزوج وخجول ولا يحمل لي سوى الاحترام والمودة التي جاءت نتيجة لمعرفته بأهلي وتاريخ والدي النضالي.

• لم اكن منتبهة لجمال عيناي، لذا لم اشعر بالغزل لهما، ولم ألاحظ لنظراتي السحر الذي كتبت، ولم اكن اعلم ان لخطواتي الإيقاع الذي تحدثت عنه، احلى حاجة فيك انك صرت تتكلم بصيغة الماضي عن حبك لي، وهذا دليل انك تغلبت عليه.

• أتذكر عندما كنت أمرُّ من امامك انت وزملائك.. كنت أزداد تحفظاً.. كنت أتحاشا زملاءك الذين أظن أن لهم رأي ووجهة نظر لا تروق عن المرأة.

• ظللت اقرأ واتابع ما تنشر.. عانيت كثيراً يا صديقي.. تألمت على خالتك كثير.. اسلوبك رائع لدرجة اني ابكي وانا اقرا.. تشبيهاتك حلوة.. ومع ذلك حاولت أن افتش عن ذاتي بين سطور ما كتبته ولم أجدها على نحو ما ذكرت، لعل أمر يتكرر بشكل آخر فأنا لم ألاحظ عليك ذلك الحب الذي تحدثت عنه وتدعيه في زمن غادر ولن يعود..

• لم اكن تلك الفتاة الأرستقراطية التي تحدثت عنها.. كنت فتاة اكثر من عاديه أكان بالنسبة لجمالي أو لوضعي الاجتماعي.. لا أمتلك تلك الصفات التي وردت فيما نشرت.

• لا أحب ان يكون لهذا الحنين انين لروحك يا صديقي.. انت شخص حساس وبسيط وصادق جدا.. لذا فالتسامح والنسيان طبعك.. بجد هذا الالم سيؤثر عليك وما نعيشه من الآلام والمرارات تكفي وتزيد.

• على غير طبيعتك حلمت في أحدى المرات بك بعد انتخابك عضواً في مجلس النواب.. حلمت انك أتيت إلى بيتي ومعك حرس وشديتني من يدي بعنف وقوة وعيونك تقدح شرراً وغضباً وتقول لي: الآن اقدر اخذك لي.. كنت مستغربة من كمية الغضب في عيونك وقسوتك الشديدة.. ظللت فترة مستغربة من هذا الحلم.

• أما أنا فحلمت وخشيت أن يكون حلمها بيت خراب..

ملاحظة: بوحها من خيالي..

زر الذهاب إلى الأعلى