العرض في الرئيسةفضاء حر

من ارشيف الذاكرة (1)

يمنات

أحمد سيف حاشد

من طفولتي الأولى

(1)

حيرة

لا أدري كيف كان مجيئي إلى هذا العالم الصاخب والمزدحم .. المحتدم بالصراع والغضب والجنون .. المليء بالقتل والمظالم والبشاعات .. عالم يُنحر فيه حق الحياة باسم الحياة، وتصلب فيه العدالة باسم العدالة، وتغيب عنه المساواة في تكافؤ الفرص حد العدم أغلب الأحيان.

جبابرة وطغاة بنوا مجدهم وحياة رغيدة لهم على حساب كرامة الإنسان ودمه وجوعه ووجعه وأحلامه.

ضعفاء وبسطاء ومحرومون، مخدوعون ومبتلون بلعنات الأقدار وسوء الطالع وعاثر الحظ.

الحياة بالبر والبحر والجو كاسرة ومتوحشة وممتلئة بالظلم والألم والجنون.

عالم لا زال محكوم في الغالب بشريعة الغاب، وشروط البقاء فيه لا زالت للأقوى، وكثيرون ما زالوا يسفكون الدم من أجل الله أو من أجل السلطة أو من أجل أنانية مفرطة ومستبدة وجشع يزداد ويستمر ولا يتوقف.

كيف جئنا؟! سؤال يمكن أن يُكلفك حياتك وتُزهق روحك باسم الله والذود عنه؟!

كم مليون صدفة كانت سبباً لوجود كل واحد منّا؟! وجود لو حاكيناه ربما أختاره البعض على أمل، وربما رأى البعض في المجهول شك ولا أمل في عالم ملؤه بالوهم والأكاذيب..

ربما رفض البعض هذا الوجود لو أتيح له الحرية و الإرادة في الاختيار.. الاختيار الذي يقوم بحسب فلسفة هؤلاء على إدراك عميق ومعرفة مستفيضة.

المكان لا يكف عن السير، والزمن يتسرمد للأبد، ومآلات الكون غامضة ومجهولة.

كم هي الصدف التي أنتجتها أو حركَتها الضرورات في عملية طويلة ومعقَدة وربما محيَرة حداً يفوق الخيال؟!

أبي وأمي .. جدي وجدتي .. لولا هؤلاء لما أتيت وما وجدت.. وينطبق هذه على التراتُبيات كلّها.. إلى كل الأجيال.. إلى الجذر الأول.. إلى الإنسان البدائي الأول على أي نحو كان.

سلسلة طويلة من الصدف والضرورات لا تكف ولا تتوقف، لا ندري بدايتها الأولى، ولا ندري إلى أين تسير، ولا ندري أين ستنتهي إن وجد للأمر نهاية!

وفي الحياة سباق مزحوم ومحموم، وليس كل ظافر في هذا السباق بالضرورة يكون محل سعادة ورضى صاحبه.

في سباق الـ 300 مليون حيوان منوي واحد فقط من يلقِّح البويضة ويتخلق في رحم الأم وما عد ذلك يفنا ويموت. فأيهما المحظوظ، هل من ظفر بالحياة أمّن أدركه الموت والفناء؟!

يرى البعض أن الفوز بالحياة هو شقاء وتعاسة وعذاب للنفس.. فوزا بالألم والندم والوهم، وما نتصوره خسران يراه البعض تحرراً مسبقاً من آلام الحياة وأوجاعها ومشقاتها التي لا تنتهي إلاّ بالموت.

من علِق وتخلَّق تسعة أشهر لماذا يخرج إلى واجهة الكون صارحا أو باكيا؟! هل هذا البكاء أو الصراخ إعلان وجود أم هو رفض واحتجاج على هكذا وجود؟! هل هو فزع من العالم أم خوف من المجهول؟!

لماذا لا نخرج إلى واجهة الكون فرحين أو مقهقهين أو حتى مبتسمين؟! لماذا المولود من بني البشر لا يستهل حياته إلاّ بصرخة بكاء حادة؟! هل صرخة البكاء هذه هي تعبيراً عن رفض لقدر لم يختاره ولم يكن لإرادته فيه شأن؟!

بين صرخة الولادة وشهقة الموت عمر مثقل بالمعاناة وعالم من المتاعب والأحزان والأشياء والتفاصيل.

عندما تتعثر خطاك على الدوام، ويلحق السوء بحظك كلعنة لا تفارقك، وتخيب أمنيات حياتك، وتبطش بك الأقدار يميناً وشمالاً وتصير فريسة للحرمان والمتاعب.. هل تكفر بنعمة من كان سببا ومعجزة في وجودك، أم تلعن تلك الصُدفة التي جلبت لك كل ما هو تعيس وخائب؟!

هل وجدنا صدفة أم ضرورة، أم هناك جواب آخر، أم أن الجواب سر عصي في عالم الغيب؟!

(2)

زواج أمي

تزوجت أمي مرتين قبل أبي ورزقت ببنت، والبنت في واقعنا الذكوري أنثى يلزمها دفع كلفة باهظة تستمر من الولادة حتى آخر العمر.. واقع اجتماعي ثقيل وظالم يحملها على أن تدفع ضريبة وجودها وجع وإرغام وانتقاص من الولادة حتى أرذل العمر، بل وتلاحقها عنصريتنا المقيتة إلى الكفن والقبر وتحت التراب!.

لماذا على المرء أن يظل يتحمل نتيجة أخطاء غيره وعلى هذا النحو من الكلفة الباهظة التي ترافقه حتى اللحظة الأخيرة من العمر بل وتمتد إلى تحت التراب؟!

لماذا بني البشر ـ إن كان الأمر كذلك ـ يستمرون بتحمل نتيجة خطيئة وأخطاء لم تكن من صنعهم أو لم يصنعونها هم؟!

لماذا الأبناء والأحفاد يتحملون أخطاء وخطايا الأجداد البعاد؟!!

لماذا على بني البشر أجمعين ـ إن كان هذا الحال ـ أن يتحملون خطيئة أمٌَنا حواء وأبونا آدم إلى آخر الزمان إن كان للزمان آخر أو ختام؟!

أختي هذه بنقاء البلور وبساطة القديسين.. مستسلمة للأقدار بسذاجة البلهاء الصبورين.. لا زالت إلى اليوم تدفع ثمن أخطاء آخرين.. لا زالت مستسلمة لأقدار لم تصنعها ولم تشارك في صنعها، بل كانت ضحيتها المستمرة حتى الساعة. عاشت طفولة بائسة وزُوجت وهي طفلة لرجل يكبرها بحدود الثلاثين عام.. أختي هذه إلى اليوم تتقاذفها الأقدار السيئة على غير ما تريد هي.. حتى اسمها يبدو أنه قدر مخادع..

اسمها ليس على مسمى ولم تجد للهناء في حياتها وجوداً.. حتى أسماءنا مخدوعين بها، يختارونها لنا فنكتشف في آخر العمر أنها مجرد وهم على وهم وسراب على سراب طويل.

كانت أمي لا تريد الزواج مرة ثالثة وأرادت أن تكتفي بتربية ابنتها ولكن تم إقناعها بالزواج للمرة الثالثة حتى ترزق بولد .. قالوا لها: إن البنت لن تفيدك في حياتك وأنها غداً ستتزوج وستكون هي تبكي وأنتِ تبكين معها بينما الولد سيكون لك خير عائن وساند في حياتك، وضماناً لمستقبلك من قادم الأيام وما قد تحمله من مجهول ونوائب.

كل له منطقه وحججه في ظل واقع ملغوم وغير آمن للمرأة، وفيه للرجل على المرأة سلطة عميقة ومتجذِّرة وكلمته عليها فصل، أو على الأقل في أغلب الأحيان.

تزوجت أمي من أبي وكنت أنا الولد الغائب الذي تحدثوا عنه .. أنا الذي سيكون في حياة أمي ضماناً لمستقبلها من قادم الأيام، وما قد تحمله من مجهول ونوائب.

ام القاضي

(3)

بشارة الولادة

في صباح يوم الجمعة 16 فبراير 1962 الموافق 12 رمضان 1383 هـ خرجت من بطن أمي إلى واجهة الكون أصرخ باكيا وكأن الحياة تلسع القادم إليها بلدغة ثعبان ومستقبل غامض ينتظره ألف مجهول..

فيما وجدتها عمتي إنها بشارة وسرور زفته لوالدي الذي كان ينتظر هذه البشارة بفارغ الصبر، ولن تكون بشارة إلا إذا كان المولود ذكرا، أما إذا كانت أنثى فهي الخيبة الصادمة، فكنت أنا المولود الذي أرادوه وانتظره الجميع.. أبي وأمي وأخوالي وكل الأهل.

خالي أخ أمي والملقب بـ (دعبل) كان شجاعا ومقداما ومغامراً .. فيما خالي الأكبر اسمه صالح .. كان متوسط القامة يميل إلى القصر، وبشرته تميل للسمرة .. كان كريما وودودا وطويل البال، ويقال عنه أنه كان ذكيا ويتميز بقدر من الدهاء.. كان لديه أيضا اهتمام في عالم التنجيم والكتب، وعندما ولدتُ أهتم لأمري وهو من سماني (أحمد) وتنبأ لي بمستقبل، ودوّن اسمي وتاريخ ميلادي وبرجي ومنزلتي في ظهر كتاب.

نفس هذا الكتاب الذي يرمي بالغيب وبشر أهلي بحظ سعيد ومستقبل عريض كاد يحمل يوما شرا لي وفاجعة لأهلي بعد سنين إلاّ أن خالي صالح كان أطول بالا من هذا الكتاب الذي يصيب مرة ويخيب ألف مرة ويدعي أنه يعرف كل تفاصيل أقدار الناس والزمان.

عدن

(1)

عدن مدينة التعايش مستقبل ملتحي.

ملاذي الأول عدن، وحبي الأول في عدن .. نصف حياتي الأجمل كان في عدن ونصف حزني مدفونا في حنايا عدن. عدن بضعة مني وأنا بضعة منها إلى يوم القيامة.

تشكَّل وعيي في عدن وتعليمي الأهم كان في عدن، ورزقنا الأول جاء من عدن، وهجرتنا الأولى والثانية كانت إلى عدن.. ولي في عدن ملاذ ووطن ولي فيها حبيبة لا تموت إلى أن أموت.

عدن الثغر الباسم و”الكفر الحلو” والإيمان المسالم..

عدن كانت تفيض بالتسامح والمحبة والتعايش.. فجاءها قوم تطرفوا حتى خنقوا فجرها القادم، وصادروا فسحتها وخياراتها بطيشهم المليء وتطرفهم الصفيق، وجاءها قوم آخر غارق بالتخلف أحالها من ثغر باسم إلى غنيمة مستباحة، ينهشونها كالذئاب.. قتلوا تسامحها الكبير، وحولوا إيمانها المسالم إلى تشدد يعشق القتل ويشرب الدم ويستبد على حرية الناس وخصوصياتهم، والتطفل على تفاصيل حياتهم اليومية..

تشدد ظلامي أراد أن يلف بظلمته الحالكة نور عدن، ونور العصر، ونور الله وجماله وسمواته العلى.

اليوم عدن يخنقها التطرف وتفتك فيها العنصرية وخطر يحدق في العيون ومستقبل ملتحي وندم بلا حدود.

(2)

أبي عامل .. مُفند ودابغ للجلود

أبي كان يعمل في عدن بشركة (البس)، يدبغ الجلود ويفنِّدها، وهي الحرفة التي أعطاها الجزء الأهم من زهرة عمره وريعان شبابه..

بسبب الملح والجلود والمواد الكيمائية المستخدمة في الدباغة أصيب بضيق النَفَس وسعال ليلي رافقه سنين طوال حتى آخر أيام حياته..

جزء من طفولتي الأولى التي أتذكر بعضها بصعوبة كان في عدن حال ما كان والدي يعمل بشركة البس..

بعد سنين من عمله بشركة البس جاء بنا من القرية لنكون معه وإلى جواره.

أقمنا في (دار سعد) إحدى ضواحي عدن وكان عمري يومها سنتين وبضعة شهور، وأختين توأم (نور وسامية) عمرهما أقل من عام..

وفي دار سعد سكنا منزلا صغيرا استأجره والدي ويتكون من غرفه وحمام ومطبخ وصالة.

والد القاضي

(3)

مغالبة “الحصبة”

في عدن مرضت بالحصبة .. كان مرض الحصبة ينتشر ويفتك بالأطفال..

الحصبة فيروس انتقالي حاد ومعدي يصيب الأطفال، ويسبب لهم مضاعفات خطيرة في بعض الأحيان.

كان مرض الحصبة أكثر الأمراض انتشارا في سن الطفولة بصفه خاصة، ومن أعراضه ارتفاع في درجة الحرارة مصحوب برشح وسعال ورمد وطفح جلدي على جميع أجزاء الجسم .. و رغم اكتشاف لقاح الحصبة في ستينات القرن الماضي إلا أنه لم يقوض هذا المرض و يصيره نادرا إلا في بداية التسعينات من القرن الماضي.

أول معركة خضتها في عدن مع هذا الفيروس القاتل للأطفال .. كان نذير موت يتهددني و يتربص بي بإصرار واشتهاء..

كل يوم يمُرُّ ولا زلت على قيد الحياة كان يعني لأبي وأمي معجزة، وكان بالنسبة لي بطولة ومأثرة..

غالبت المرض وقويت على المقاومة والصمود بفضل بعض النصائح التي أسدتها جارتنا لأمي، والتي كانت على بعض دراية بوسائل تخفف من وحشية وآثار هذا المرض .. وفي الأخير انتصرت على فيروس الموت وتعافيت واكتسبت مناعة منه لمدى الحياة.

(4)

سقم وهزال

وبعد شهور مرضت بمرض لا أعرفه .. أصابني هزال وفقدان شهية .. هزل جسمي إلى درجة جعلني أشبه بأطفال المجاعة بإفريقيا .. طفولتنا كانت بائسة، نعيش فيها صراع مع الموت من أجل البقاء .. أمّا أن تغلب المرض أو يغلبك، الموت يحوم عليك ويتربص بك في كل يوم وساعة..

جارنا عبد الكريم فاضل كان صديقاً لوالدي، عندما شاهدني قال لأبي بذهول ودون مقدمات “ابنك سيموت ولن يعيش”. هذه العبارة التي بدت صادمة لأبي جعلته يذهب بي على الفور إلى مشفى في عدن غير أن الطبيب أخبره أن الأمل في أن أعيش ضعيف.

شار جارنا لوالدي أن يذهب بي إلى طبيب ماهر في لحج لربما وجد عنده بصيص أمل.

و في لحج قال الطبيب لوالدي بأن حالتي سيئة جداً، وأنني لم أعد أحتمل الإبر، ولن استطيع أن أتحمَّل المرض أكثر، ولكن “لعل وعسى” قرر لي وصفة علاج دون إبر..

استجاب جسمي للعلاج وأخذت حالتي تتحسن ببطء، بدأت أقبل على الطعام بنهم يزداد كل يوم، ومن أجلي كان أبي يجلب لنا رطل من اللحم في اليوم الواحد أتناوله كله لوحدي ولا أترك لأهلي شيئا منه يأكلونه. كانوا إذا أعطوني قطعة منه ما ألبث أن أعود أطلب أخرى حتى أنتهي من آخر قطعة اشتراها والدي.

وبعدها تعافيت بل وصرت مشاغباً وشقياً .. كنت أخرِّب الجدران وأخربشها .. أكسر زير الماء .. أرمي بمجالس الأكل على أي شيء .. اكسر الزجاج .. أرمي بأواني الطعام .. ارتكب كل الحماقات وأرمي كل ما تطاله يدي على ما تقع عليه عيني .. فيما كانت أمي تبكي من أفعالي أحيانا، وتغضب أحيانا أخرى، وتعاقبني بقسوة في معظم الأحيان, كان بكائي الصارخ والضجيج يملأ البيت كل ساعة، حتى شكا الجيران ومؤجر البيت إلى أبي بسبب إزعاجي وبكائي .. كنت مزعجا لأهلي وللجيران والمؤجر .. لم أكف عن الشقاوة والبكاء والصراخ.

(5)

بؤس وشقاوة

كان أبي يقضي بحدود العشر ساعات بالعمل المضني من أجل الحياة وسد لقمة عيشنا المتواضعة وعيش أسرة أخرى كانت لازالت تقيم بالقرية وتنتظر ما يأتيها من والدي..

كانت الحياة صعبة وصراعنا كان هو من أجل البقاء، فالستر واستمرارنا بالحياة هي أقصى ما نحلم به ونريد.

كانت أمي تطلب من أبي أن يغلق علينا الباب من الخارج خوفاً من أن يطالها قول أو شائعة، فهي ابنة “شيخ” كما كانت تصف نفسها وتعتز، وكان أبي لا يرفض طلبها ويغلق الباب علينا من الخارج حتى يرجع من العمل.

كانت أمي شديدة الحياء والمحافظة والتوجس إلى درجة حبس نفسها بين الجدران لا تفتح نافذة ولا باب. أبي هو وحده من يفتح الباب ومن يغلقه، فيما كانت أمي تشغل وقتها بالتنظيف وغسل الملابس والطبخ والقيام بجميع أعمال البيت..

ولكن لماذا أنا أيضا يتم حبسي ولا يُسمح لي أن أخرج للشارع لألعب مع الاطفال أو أطل عليهم من نافذة.. أريد أن أرى ماذا يحدث خارج جدران البيت.. أريد أرى الوجوه والناس والحركة وصخب الحياة..

كل ساعات النهار والليل ـ عدا النوم ـ نظري يرتطم بالجدران وسقف البيت.. لا يوجد شق في نافذة ولا خرم مفتاح في باب..

أسمع بعض ما يحدث خارج البيت ولكنني لا أراه.. فضولي مقموعا بجدران من اسمنت وخشب من ساج ولا مجال ولا أمل أن أرى ماذا يحدث في الشارع من ضوضاء وعراك وقهقهه..

أريد أن اعرف العالم خارج حيطان بيتنا.. أريد أن أرى أبناء الجيران و(شمس) المجنونة على سريرها في الشارع، والمحوطة بالصرر والقراطيس والأشياء الفارغة التي رأيتها ذات مرة عندما خرجت مع أبي مريضا من أجل العلاج..

أريد أن أرى كل التفاصيل خارج حيطان البيت المتواضع الذي نستأجره.. ليس أمامي من طريق أن أرى العالم خارج جدران بيتنا.. كل شيء ضيق في البيت كصدري الضيق، وجمجمتي الصغيرة.. أشعر أنني أقضي أيامي في محبس من حديد؛ فكان طبيعيا أن أكون شقيا، وأن يجد هذا الحرمان والمعاناة انعكاسه في سلوكي الشقي والمتمرد بين جدران البيت وسقفه.

الموت يداهمنا

(1)

تساؤل

لماذا الموت يا إلهي؟ إن كان الموت ضرورة والحياة ضرورة فأنت على كل شيء قدير.. ماذا كان سيحدث إن عُدمت الضرورات ولم يخلق الله الخلائق ولم تشهد الأكوان والعوالم حياة ولا موت؟! ربما لو حدث هذا لانعدم الحزن الذي يملئ هذا الوجود..

أكره الموت عندما يخطف منا من نعزّهم ونحبّهم.. البقاء غريزة قوية فينا أو جاءت معنا عندما جئنا، لا دخل لنا فيها ولا حولا ولا قوة.. أكره الموت عندما يخطف منا حبيبا أو عزيزا أو كريم ..

الموت رهيب جدا.. الموت سكونا موحشا.. عدما وفراغا يدوم.. الموت فراق للأبد ورحيل بلا نهاية.. الموت خراب وحزن ثقيل جدا على بني البشر.. هذا ما أشعر به عند رحيل كل عزيز وحبيب فيما الموت عند الميت ربما شيء مختلف ومغاير.. الموت حالة ربما تتأخر ولكن مجيئها في حكم الأكيد.. كبار المسلَّمات ربما تكون محل ظن وشك، وأما الموت فحقيقة ويقين.. ناموس لا يقبل الشك ولا التفاوض.. ولكننا لا ندري بيقين ماذا يحدث لنا بعد الموت والغياب الطويل.

(2)

موت الأختين

أسرتنا في عدن كانت تتكون من أبي وأمي وأنا وأختين توأم نور وسامية.. أسرة صغيرة وبسيطة تربص بها الموت حتى ظفر بالزهرتين..

جاء الموت على نحو غريب وغامض لا زلت أجهل سببه وتفسيره إلى اليوم. شيء أخذ من أسرتنا الصغيرة الأختين (نور، وسامية) وكدت أكون أنا الثالث.

أختي نور ماتت وكان عمرها لا يتجاوز العام .. كانت تصرخ فجأة صراخ طافح وقوي، وما أن يتم حملها تسكت، وعندما يتم وضعها على الأرض تعود بنفس الصراخ حتى يكاد ينقطع نفسها فيتم المسارعة لحملها من قبل أبي أو أمي فتكف عن الصراخ ويستمر هذا الحال فترة طويلة إلى أن تنام محمولة.. وفجأة تصرخ ولا تستعيد نفَسها وماتت حالا.

أختي (سامية) عندما كان عمرها أكثر من عام تكرر معها نفس الحال والأعراض.. تصرخ فجأة دون سبب معروف، ثم يتم المسارعة لحملها من قبل أبي أو أمي فتسكت، وعندما يتم إنزالها إلى القاع أو الفراش تصرخ مجددا وبصوت قارح فيتم حملها بسرعة وينتهي الأمر إلى أن تنام محمولة..

وفي يوم صرخت فسارع أبي لحملها ولكن أنقطع نفَسها ولم تعد، ولم نعرف سببا لموتها إلى اليوم، قال البعض هراء : ماتت لأن البيت التي نحن فيها مسكونة بالجن، وقال آخرون ماتت “فرحة”.. وأي فرحة إذاً وصرخة موتها يشق الجدار.

كنت أحب أختي سامية، كانت جميلة وبهية.. كانت حياتها خاطفة وسريعة.. حياة قصيرة كلحظة عاشق.. كحلم عَجول.. أما أختي نور فكانت حياتها أقصر وأسرع وتفاصيلها عصية على الذاكرة بعد خمسين عاماً من طفولة باكرة.

(3)

فقدان موحش

لازلت أذكر سامية وهي مسجاة على الفراش.. كانت الرغبة تستبد بي لأعرف ماذا حدث.. كان الغموض عندي بكثافة مجرة مملوءة بالأسرار العصية على الفهم..

كنت أنظر إليها مشدوها كأنني أشاهدها واكتشفها لأول مرة.. رغم الموت كان وجهها نابضا بالنور، وعيونها مشرقة رغم السكون، كانت تلبس ثوبا بلون دم الغزال.. لا زال هذا اللون أثيرا لنفسي وإن كان يذكرني بفراق طويل.. لم أكن أدرك حينها إن الموت خطفها وغيبها للأبد.. لم استوعب أنها لم تعد بيننا وإنها لن تعود..

كنت ابحث عنها على الدوام وابكي وأقول لامي ابحثي عنها في مكان نومها، أريد أختي، أريد ألعب معها.. لم تحتمل أمي كلماتي الموجعة التي تنز دما وحرقة، كانت تحاول تبلع غصصها وتداري حسرتها البالغة فيفضحها انهمار دموعها، فتنفجر بالبكاء وأبكي معها دون أن أعرف السبب..

كرهت الموت من حينها غير أن أمي كانت تخفف من وجعي ووجعها وتقول إنها في السماء وإنها مرتاحة وسعيدة بين بنات الحور وإنها تأكل اللحم والتفاح وكل أنواع الفاكهة.. كل ما أنا محروم منه في الدنيا الفانية هي تأكله وتنعم به في الحياة الثانية..

أخبرتني أنني سألتقي بها يوم القيامة.. ومتى ستأتي يوم القيامة؟! إنني أكره الموت والفراق الطويل؟

من فرط تعلقي بأختي سامية جاءت مولودة لاحقا فأسموها سامية تعويضا وتخفيفا من فراغ موحش تركه هذا الموت الذي يغيِّب عنّا من نحب.. هذا الموت القاصي والخالي من الرحمة والمشاعر.. سامية الجديدة جاءت شفيفة ومرهفة وحميمة، ومسكونة بالسمو والنبل الجميل.

(4)

كدت أموت

ماتت نور وسامية وكدت أكون ثالثهما.. مررت بنفس الحال والأعراض.. كنت أصرخ فجأة كزمجرة رعد على حين غرة ويسارعان أبي أو أمي في حملي وما أن أعود للأرض حتى يعود الصراخ.. وأظل محمولا حتى أنام وأحياناً أقوم من نومي صارخا ويتكرر المشهد وتزداد مخاوف أبي وأمي وتوجسهما أنني للحياة مفارق.

لماذا أصرخ ؟! لا زلت أذكر.. لا أستطيع أنسى ما كنت أشاهده .. ما زال المشهد عالقا بالذاكرة، حافرا فيها، وما زال تفسيره وكنهه غامضا وعصيّا على فهمي إلى اليوم.

كنت أشاهد ثعبان أبيض يخرج من القاع.. طوله بحدود المتر.. له أرجل.. أرجله منتشرة على حافتيه ورأسه مربعا متناسق مع جسمه باستثناء أنه مميز بعينين مدورتين وعرض رأسه أكبر بقليل من عرض جسمه، ولديه شعرتان في مقدمة رأسه وكأنها للاستشعار..

أشاهده بغته يخرج من القاع يجري فأصرخ بهلع كما كانت تصرخ (نور، سامية) صراخ قارح وناري يشق الجدار.. كزمجرة رعد يأتي بغته على نحو صادم في لحظة شرود وتيه.. صراخ ينم عن مشاهدة أمر صادم، مرعب وفضيع.. شيء ما يجعل الفزع والجزع يشقني نصفين. وعندما كانا يحملاني أبي أو أمي يختفي هذا الثعبان بالقاع، وعندما يطرحاني في الأرض أراه من جديد يخرج من الإسمنت ويزحف بسرعة، ويتكرر هذا المشهد ويتكرر هذا الصراخ .. أبي وأمي لا يرونه، أنا كنت الوحيد الذي أراه، ولذلك لم يستطيعا اكتشاف سبب الصراخ وما أشاهده إن كان لما أشاهد هنالك من وجود.

في إحدى المرات، تكرر مشهد الصراخ وعندما لمح أبي على يدي خربشات قلم، قام بمسحها فانتهى صراخي ولم أعد أراه.. فهم الأمر أنني كتبت اسم شيطان .. ولكن هذا التفسير غير مقنع ولا يستقيم لأن حالات كثيرة تكررت معي ومع سامية ونور دون أن تكون هناك كتابة أو شخابيط .. كم أخشى من ظُلمنا للشيطان وربما الشيطان بنا كان رءوف ورحيم.

للاشتراك في قناة موقع “يمنات” على التليجرام انقر هنا

زر الذهاب إلى الأعلى