العرض في الرئيسةفضاء حر

التراث الديني المفخخ

يمنات

صلاح السقلدي

التطرف الديني الإسلامي الذي يخبط خبط عشواء في كل الأصقاع من مشرق المعمورة إلى مغربها، ويعصف بوجوه شعوب الأرض قاطبة – تقريباً – بكل أديانها وأقوامها ومذاهبها وطوائفها وأفكارها ومدارسها وتراثها الإنساني المادي والمعنوي، وعلى رأسها الشعوب الإسلامية نفسها، هو الوليد الشرعي والحصاد الطبيعي لبـذار التراث التدميري المشوه الكامن في وسط الكتب والسطور، وفي أعماق العقول والصدور، في بطون كثير من الكتب المسماة زيفاً وخداعاً بـ”الدعوية” و”الجهادية”، وذلك كمحصلة شحن وحشو تراكمية مستمرة لقرون تصرمت وسنوات مضت، أحالت الجسديَن العربي والإسلامي ومعهما كثير من شعوب الأرض إلى شظايا ورزايا، وضربت معها سماحة الإسلام ورقي انسانيته في الصميم، وتوشك أن تخرجه عن جادته السوية ومحجّته البيضاء التي تركنا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فالشباب المسلم كباقي البشر لم يُخلق متطرفاً إرهابيا عدوانياً ولا ميّالاً للعنف والقتل، ولا حتى نزاعاً للعزلة والانطواء (كحال الكثيرين اليوم ممن شذوا عن المنهج الإسلامي)، بل مسالماً مُحبّاً للعيش بسلم وسلام وإسلام وأمن وأمان وإيمان، اتساقاً وتناغماً مع طبيعة البشر وفطرتها المسالمة. ولكن حين تلقفتهم وتتلقفهم أوعية الإسلام السياسي والفكري الإخواني، السلفي، الجهادي، الوهابي، وغيرها من حركات الإستبداد السياسي المتدثر بعباءة الإسلام، وهم في ريّان الشباب وريعان العمر كصفحة بيضاء نقية، تحيلهم إلى قنابل موقوتة من دم ولحم تمشي على الأرض، وإلى عقول مفخخة ما تلبث أن تتحول إلى أحزمة ناسفة لا تفرق بين ضحاياها، أكانوا من ذوي القرباء أو الغرباء، اتخذت من العنف وسيلة ومنهاجاً لفرض فكرها؛ فالعبوة الناسفة مولود شرعي للفكرة الملغومة.

أستغرب حتى الإندهاش ممن يبدون الإستغراب – أو يتصنعونه – لبروز هذه الظاهرة الخطيرة في مجتمعاتنا. ومبعث استغرابي هو أنه برغم كل هذه الشواهد وكل هذه العوامل والأسباب المتهيئة كأرضية خصبة ندية صالحة لزراعة شجر وشجيرات التطرف، تجد من يستغرب ظهورها. فأشواك اليوم من بذور الأمس، ومن يزرع العوسج لا يجن العنب. يكفي أن نتوقف عند عدد من القنوات الدينية الفضائية التي تحرّض ليل نهار على الطائفية والمذهبية وتبث سموم التكفير بكل الجهات، ومن نفس المنهل تنبع الفتاوى التكفيرية لجيش من المفتين على هذه القنوات وعلى صفحات التواصل الإجتماعي التي تنهال منها آلاف القنابل الإلكترونية الناسفة، ووسائل الإعلام المختلفة المقروءة والمسموعة، و(بعض) المراكز الدينية المتطرفة المنتشرة في كثير من الدول، وغيرها من الوسائل التي تنشر وتشجع وتدعم التطرف، والموجودة بمتناول اليد بسهولة ويسر، والمتكئة على عكاز إرث طافح بالعنف والنسف.

سنورد هاهنا نتفاً من هذا التراث، حتى نزيل به بعض الغشاوة عن الأعين، ونبعد ولو جزءاً من حالة الإستغراب الذي تعتري البعض ممن تأخذهم الدهشة من هذا التوحش الذي يجتاح بعض شباب اليوم، لعلّ وعسى أن تكون هذه صرخة بوجه من لم يستشعر خطورة الإنزلاق إلى الهوة السحيقة التي نقف على مشارفها اليوم، إن لم نكن أصلاً قد هوينا في قرارتها العميقة:

1 – هذا الداعية الباكستاني الإسلامي الشهير، أبو الأعلى المودوي ( 1903م- 1979م)، وهو لِمَن لم يسمع عنه مؤسس الرابطة الإسلامية الباكستانية، ويعتبر من كبار الدعاة الذين كان لفكرهم الموغل بالتشدد والمغالاة تأثير بليغ ليس على مُريديهم من الشباب وحسب، بل على كثير من الدعاة الكبار من المشرق الإسلامي ومغربه، وعلى رأس هؤلاء الداعية الشهير الراحل سيد قطب، الذي استلهم كثيراً من كتبه من فكر المودودي وآرائه، منها كتابه الشهير “معالم في الطريق” المثير للجدل، الذي ينضح تكفيراً صارخاً ليس فقط بوجه الحكومات ومعارضيه بالفكر والدين والمذهب، بل بوجه المجتمعات كلها شعوباً وحكاماً عرباً وعجماً ( سنعرج على بعض ما فيه لاحقاً)… يقول المودودي في كتابه “تذكرة دعاة الإسلام” مخاطباً الشباب: “… أن تبدأوا الحرب فعلا مع البيئة المحيطة بكم”! عليكم “أن تدخلوا في حرب مع أهل بيوتكم وأقربائكم وأصدقائكم وبيئتكم التي ترتبطون بها، قد يثور أزواجكم وأولادكم وآباؤكم وأمهاتكم وأقرباؤكم وأصدقاؤكم احتجاجاً على سلوككم، حتى تصبحوا غرباء بين ذويكم في دياركم، وتكونوا كالقذى في العين أو كالغصة في الحلق في كل مكان تعملون فيه لكسب المعاش… وإني في غاية السرور والطمأنينة

بالنسبة للأماكن التي تصل إليّ منها أخبار الصراع والمشاكسة بين أعضاء الجماعة وأقربائهم، وفي غاية من القلق والاضطراب بالنسبة للأماكن التي ما بدأت تترامى إلي منها مثل هذه الأخبار حتى الآن”. ويقول مؤسس حركة “الإخوان المسلمين”، حسن البنا، في مذكراته عن أبو الأعلى المودودي، “كان يجمعنا كل عشرة أو نحوها، ويذهب بنا إلى المقبرة… ثم يعرض علينا القبور المفتوحة ويأمر بعضنا بالنزول فيها والاضطجاع لحظة… ويبكي فنبكي معه”.

2 – ولما كان الإمام سيد قطب قد انبهر كل الإنبهار بفكر المودودي، فقد أنتج ذلك الإنبهار القنبلة القطبية المدوية التي ما زال صداها يتردد بقوة، ونقصد هنا كتابه الشهير “معالم في الطريق”، (وغيرها من الكتب)، والذي قال عنه المودودي: “إن ما ورد في كتاب معالم في الطريق هو نفس ما أراه، بل كأنني الذي كتبته، فقد عبر عن أفكاري بدقة”. وفي موضع آخر من الكتاب نفسه، يقول قطب، في بعض فصوله، “لا وجود لأمة مسلمة، وما نراه الآن ليس سوى تجمع حركي جاهلي… المجتمعات التي تستمد شرائعها وأنظمتها من هيئات مدنية تملك سلطة التشريع هي مجتمعات جاهلية”.

3 – وهذه بعض من فتاوى ومواقف الشيخ ابن تيمية تجاه عدد من الطوائف والمسائل الدينية من العبادات والمعاملات:

أ – “… فهذه خاصة الرافضة الإمامية، التي لم يشركهم فيها أحد، لا الزيدية الشيعة ولا سائر طوائف المسلمين إلا من هو شر منهم كالإسماعيلية، الذين يقولون بعصمة بني عبيد، المنتسبين إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر، القائلين بأن الإمامة بعد جعفر في محمد بن إسماعيل دون موسى بن جعفر، وأولئك ملاحدة منافقون…”.

ب – “… لا للمستأجر أن يمنع الأجير من الصلاة في وقتها، ومن أخّر الصلاة لصناعة أو صيد أو خدمة أستاذ أو غير ذلك حتى تغيب الشمس وجبت عقوبته، بل يجب قتله عند جمهور العلماء بعد أن يستتاب، أو قال إنه يجب على المسافر أن يصوم شهر رمضان وكلاهما ضلال مخالف لإجماع المسلمين يستتاب قائله فإن تاب وإلا قتل”.

ج – “من قال: أنا شافعي الشرع، أشعري الإعتقاد؛ قلنا له: هذا من الأضداد لا بل من الإرتداد”.

4 – والشيخ الألباني لم تكن آراؤه هو الآخر أقل حدة تجاه مخالفيه؛ فتراه على سبيل المثال وليس الحصر يقول عن طائفة الإباضية، وهي طائفة إسلامية منتشرة في عدد من دول العالم أبرزها سلطنة عمان: “… إن الإباضية قد خالفوا عقيدة جماعة الإسلام الذين اجتمعوا على الحق ولم يتفرّقوا في الدين، فهي أصول الإسلام الذي هو عقيدة بلا فِرَق ولا طُرُق، وخالفوا منهج أهل السنة والجماعة في قواعدهم وأصولهم في مجال التلقي والاستدلال، وفي الإتباع وترك الإبتداع”.

5 – والشيخ ابن باز يرد على سؤال: ما حكم من لم يكفّر اليهود والنصارى؟ بقوله: “هو مثلهم، من لم يكفر الكفار فهو مثلهم، الإيمان بالله هو تكفير من كفر به”.

وبالعودة إلى الحديث عن الإسلام السياسي، فهو يحلّـق اليوم بجناحين رئيسين: حركة “الإخوان المسلمين” التي تتخذ من الدين وسيلة للوصول إلى الحكم، والسلفية العلمية والجهادية (الوهابية) المتخذة من الدين أيضاً صولجاناً لإبقاء ولي أمرها في الحكم إلى الأبد. وهذان الجناحان برغم تماهي أفكارهما وأيدولوجيتهما الدينية إلى حد كبير، وتلاقيهما في كثير من المواقف والأحداث السياسية عبر التاريخ، لا ينفكان عن تكفير بعضهما بعض ضمن سعي تنافسي محموم على الحكم. فهذا الشيخ السلفي الوهابي ابن باز يعلنها صراحة أثناء رده على سؤال عن رأيه بحركة “الإخوان المسلمين” وجماعة التبليغ والدعوة، التي هي جماعة إسلامية خصصت نفسها للدعوة والزهد في الدنيا، ويعتمد أسلوبها على الترغيب والتأثير العاطفي الروحاني، أو هكذا تقدّم نفسها. يقول السؤال الموجه لابن باز: “ستفترق الأمة الاسلامية على ثلاث وسبعين فرقة إلا واحدة (الحديث النبوي)، فهل جماعة التبليغ على ما عندهم من شركيات وبدع، وجماعة الإخوان المسلمين على ما عندهم من تحزب وشق للعصا على ولاة الأمور، هل هاتان الفرقتان تدخلان في الفرق الهالكة؟”. فيأتي جواب ابن باز: “نعم، من ضمن الاثنتين والسبعين، ومن خالف عقيدة أهل السنة دخل في الاثنتين والسبعين، المراد بقوله (أمتي) أي: أمة الإجابة، أي: استجابوا له وأظهروا اتباعهم له، ثلاث وسبعين فرقة: الناجية، السليمة التي اتبعته واستقامت على دينه، واثنتان وسبعون فرقة فيهم الكافر وفيهم العاصي وفيهم المبتدع”.

وللتدليل على أن الدين الإسلامي عند جماعات الإسلام السياسي هو مجرد موظف في بلاط الحاكم ووسيلة للظفر والبقاء بالحكم ضمن فلسفة الصراع على كراسي الحكم والتسابق على النفوذ بالداخل والخارج، فقد كانت حركة “الإخوان المسلمين” في نظر السلفية الوهابية في خضم الصراع السعودي المصري بخمسينات وستينات القرن الفارط، وحين التقت المصالح السياسية وغابت الإختلافات الأيديولوجية المصطنعة، حركة مجاهدة في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم، والرئيس جمال عبد الناصر كافراً بإجماع علماء الأمة (بحسب عنوان كبير في صحيفة عكاظ السعودية)! وكذلك، طال الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين، شرر التكفير الديني على خلفية مواقف سياسية محضة بعد حربَي الخليج الثانية والثالثة، بعد أن كان في نظر السلفية الجهادية حامي حمى البوابة الشرقية للأمة. فهذا ابن باز أيضاً يعتبر أحزاب “البعث العربي” الحاكمة في العراق وسورية وفروعها القُطرية وكل أحزاب اليسار كافرة. قال هذا في معرض رده على سؤال عن رأيه بالرئيس العراقي صدام بعد إعدامه: “هو كافر وإن قال لا إله إلا الله، حتى ولو صلى وصام، ما دام لم يتبرأ من مبادئ البعثية الإلحادية، ويعلن أنه تاب إلى الله منها وما تدعو إليه، ذلك أن البعثية كفر وضلال، فما لم يعلن هذا فهو كافر، كما أن عبد الله بن أبي كافر وهو يصلي مع النبي – صلى الله عليه وسلم -، ويقول لا إله إلا الله ويشهد أن محمداً رسول الله وهو من أكفر الناس وما نفعه ذلك لكفره ونفاقه، فالذين يقولون: لا إله إلا الله من أصحاب المعتقدات الكفرية كالبعثيين والشيوعيين وغيرهم ويصلون لمقاصد دنيوية، فهذا ما يخلصهم من كفرهم؛ لأنه نفاق منهم، ومعلوم عقاب المنافقين الشديد”.

نكتفي بهذه النماذج على قلتها، والتي نحسب أن نبشنا لها ونبش ما في تراثنا الإسلامي القديم والحديث من تشوهات وفخاخ ومصائد لم يأت إلا من باب الحرص على الأمة بحاضرها ومستقبلها، لعل هناك من يبادر إلى إصلاح الأمور وإعادتها الى جادتها القويمة، ويسدد سير خطواتها التائهة.

عن: العربي

 للاشتراك في قناة يمنات على التليجرام انقر هنا

زر الذهاب إلى الأعلى