العرض في الرئيسةفضاء حر

العنف جوهر العلاقات السائدة في المنطقة العربية

يمنات

عبد الباري طاهر

العنف كتعريف علمي هو الخرق بالأمر، وقلة الرفق به، ويتضمن: الشدة والإيذاء والقوة؛ والعنف الرمزي يفلح في فرض دلالات معينة، كما يرى بيير برديو. وهنا لا بد من الفصل بين العنف والحرب باعتبارهما قضيتين مختلفتين؛ أما الحرب كصراع مسلح عنيف مفتوح ومعلن فهي الشكل الأرقى للعنف، أو المرحلة الأعلى من مراحل العنف. فبين الحرب والعنف علاقة “عموم وخصوص”، فكل حرب عنف، وليس كل عنف حرباً. العنف معنى من معاني الحرب، وجذر من جذورها العديدة المتنوعة. وإذا كانت الحرب من مآتي العنف وبعد جوهري له وأحد أهم دلالاته ومعانيه، فإنها أي الحرب ترفد العنف وتنشره وتغرسه في النفوس وتزرعه في الحياة العامة كلها.

شرارة العنف قد تكون كلاماً – مجرد كلام – “فالحرب أولها كلام”، كإبداع نصر بن سيار. سبق الشاعر العربي ماوتسي تنج حين قال: “ومعظم النار من مستصغر الشرر”. وإن كانت مقولة ماو: “رب شرارة أشعلت السهل كله” أكثر بعداً وعمقاً ودلالة سياسية تليق بالتطورات الداهشة في القرن العشرين وأبعاد حرب العصابات حينها.

العنف معنى من معاني الحرب وبعد عميق لها. التاريخ الإنساني والحضارات البشرية كلها قامت على العنف وازدهرت بالحرب وفيها، وبالأخص في مراحل العبودية والإقطاع في عصرنا الراهن، ومع تطور أدوات ماكينة الحرب كلية القدرة والتدمير، ووجود أنظمة كونية تلغي السيادة والإستقلال، وتدعم السلطات المحلية القومية التي تلغي بدورها المجتمع وتبتلعه متماهية مع الإرادة الكلية للعولمة المسلحة؛ فتلغي الحدود والفواصل بين القومي والأممي، وتعطي الولاء المطلق للعولمة المسلحة، وتتولى قمع الإرادة الداخلية، وتفكيك المجتمع وتمزيق نسيجه الداخلي، وبعث وإحياء النعرات القبائلية والعشائرية والطوائفية والجهوية والتعصب من كل شكل ولون؛ أضحت الأمة العربية، وهي من أكثر الأمم امتلاكاً لشروط ومقومات الأمة حسب التعريف العلمي: الأرض الواحدة، التاريخ العام، التكوين النفسي، اللغة، والمصير المشترك، من أكثر أمم وشعوب الأرض تفككاً وتمزقاً، وغياب إرادة، وارتهاناً لأشكال ما قبل التاريخ. لقد كانت حصيلة الحربين الكونيتين وما تلاهما أكثر من عشرين دولة كلها غارقة في التصارع مع بعضها، ومهجوسة بحرب الداخل.

الدولة القطرية التي بنيت كمعطى من معطيات الواقع، وصياغة جديدة استعمارية، تتكسر الآن كالفخار، ويتشارك بعضها مع الإستعمار الأمريكي الأوروبي الروسي في حرب التدمير. والمأساة أن هذه الأنظمة تدمِر وتدمَر في آن؛ فهي تدمر نفسها بالحرب وتدمر مجتمعاتها وشعوبها بالعنف والحرب معاً.

العنف نهج وسياسة النظام العربي كله، فسياسة التجويع والتجهيل، والغبن الإجتماعي، ومصادرة الحريات العامة الديمقراطية، وقمع حرية الرأي والتعبير (الحريات الصحافية)، وإفساد مناهج التعليم وتقليديتها وما تزخر به من عنف رمزي وتدمير معنوي وأخلاقي، وتلغيم الحياة بالتجريم والتحريم والتكفير والتأثيم، كلها تمزق أواصر الأخوة والقربى داخل هذه المجتمعات، وبالتالي مع أخوتها وجوارها العربي.

خطابات المساجد المنذرة والمبشرة بـ”جهنم وبئس المصير”، المسكونة والمزهوة بعذاب القبر وأهوال يوم القيامة، كأن الآخرة ليست إلا النار التي يحكمون بها ثم يتوعدون بها، عداوات صراعات الأحزاب والأيديولوجيات البالية والمقيتة، وصراعات اليمين واليسار، واليسار واليسار، واليمين واليمين، ومناهج وأساليب التكفير والتخوين، والتحقير والتنقيص، والإقصاء والتهميش، كلها سياسات عربية بامتياز، وهي بؤر الحرب، وغذاء وزاد للعنف المعنوي والمادي ترفد الحرب المستدامة وتذكيها؛ فالعنف الذي يعني الغلظة والشدة والقسوة والقهر هو جوهر العلاقات السائدة في المنطقة العربية.

ما يفعله العربي بالعربي وبنفسه لا يقل قسوة عما تفعله إسرائيل بالفلسطيني، “وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على القلب من وقع الحسام المهند”، ولكن إسرائيل هي الحسام المغروس في القلب. الحرب، العنف، الإرهاب، الظلم، القهر، الغبن، ثقافة الكراهية، الطغيان، الإستبداد، التسلط، الفساد، الإغتيال، القتل، التطرف، التشدد، التكفير، التخوين، هي من أكثر الألفاظ تداولاً في اللسان والقاموس العربي.

الفاجع أن الدولة القطرية التي اعتبرت مطلع القرن الماضي صنيعة الإستعمار، ومفردة رجعية، وقامت ثورات ضد بعضها تدمر الآن وتدمر معها المدن العربية، والكيانات الحضارية الممتدة لآلاف السنين، ومنجزات أكثر من قرن من الزمان من التمدن والتحضر والإستنارة العربية، وجهد وكفاح الإنسان العربي على مدى قرون عديدة.

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

زر الذهاب إلى الأعلى