العرض في الرئيسةفضاء حر

خطوات ناعمة لفرض مشروع الاقلمة

يمنات

صلاح السقلدي

قد يكون مشروع الدولة الإتحادية اليمنية (من ستة أقاليم أو أكثر أو أقل) والذي تطرحه بعض القوى اليمنية فكرة ناجعة لحل الأزمة الضاربة جذورها في عمق التاريخ في محافظات الشمال اليمني، أو ما باتت تعرف مؤخراً بمسألة هيمنة المركز المقدس كمصطلح جديد طرأ على ميدان السياسة اليمنية، ليختزل تلك الإشكالية السياسية التاريخية القديمة المتمثلة بالشعور بالظلم والتعسف منذ مئات السنينبما فيها فترة ما بعد 1962ممن قبل شمال ووسط الشمال اليمني (صنعاء وما جاورها) بحق جنوب الشمال (تعز وما جاورها) كما يشعر به الكثيرون في هذه المحافظات.

زادت الحرب الدائرة اليوم هذا الشعور تعميقاً وتشجيعاً من قبل قوى إقليمية، كورقة ضاغطة يمكن أن تصلح سلاحاً بيد الطرف المدعوم خارجياً في هذه الحرب المستعرة منذ 18 شهراً بين القوى المتصارعة على الحكم في صنعاء منذ 2011م. نقول إن هذا المشروع (أي مشروع الأقاليم الستة أو أكثر أو أقل، باستثناء مشروع الإقليمين بحدود 1990م والذي يمكن أن يكون حلاً معقولاً توافقياً) قد يكون ناجعاً في تلك المحافظات – أي المحافظات الشمالية – باعتبار الأزمة فيها، وبرغم عمقها التاريخي، أزمة محلية تتمحور حول الصراع على الحكم والنفوذ، ويمكن معالجتها بإعادة تقسيم البلاد تقسيماً إدارياً على شكل أقاليم، يُتفق على عددها بالتوازي مع الجنوب الذي ينبغي في أسوأ الأحوال أن يظل إقليماً موحداً أو ما شابه ذلك لإرخاء قبضة يد المركز.

لكن اعتبار مشروع الستة أقاليم حلاً لقضية الجنوب الوطنية والسياسية، والسعي إلى تطبيقه عملياً على الواقع كما نراه اليوم يتم للأسف بخطوات ناعمة من خلال قوى يمنية، وأخرى للأسف جنوبية حراكية وإن كانت محدودة العدد والتأثير، وثالثة إقليمية ودولية، فهذا عمل تعسفي يضرب الجنوب في صميمه؛ ومحاولة صارخة للإلتفاف على جوهر وماهية القضية الجنوبية كقضية وطنية سياسية بحتة أنتجتها تجربة وحدوية فاشلة بين دولتين وشعبين باعتراف الجميع، وليست قضية ثانوية هامشية كما يتصور البعض. وبالتالي فأي قبول جنوبي، وبالذات من قبل قوى الثورة الجنوبية، بالمضي قدماً في تمرير هذا المشروع سيمثل أكبر ارتكاسة للجنوب، وسقوطاً مدوياً في هوة سحيقة من الضياع والتيه، ستكون أشد وطأة من كارثة وتيه 1994م، وتفريطاً غبياً بالفرصة السانحة التي من الصعب – إن لم نقل من المستحيل – تكرارها بعد عشرات السنين، والتي وهبها القدر للجنوب في غفلة من الزمن على طبق من ذهب وألماس.

فما يمكن أن يكون حلاً لمشاكل الشمال ليس بالضرورة أن يكون حلاً لمشكلة الجنوب، وهذا ما هو حاصل اليوم ويجب أن يكون. اختلاف الحل ناتج من اختلاف نوع المشكلة، واختلاف الدواء من اختلاف الداء، فلو أعطى الطبيب نفس الدواء لكل مرضاه… لهلك معظمهم.

وعلى سبيل التذكير، فقد طُرحت فكرة مشابهة لفكرة الأقاليم الستة قبل حرب 1994م باسم “مخاليف يمنية”، تقوم على إعادة صياغة دولة الوحدة حينها بمشروع سياسي طموح سمي بــ”وثيقة العهد والإتفاق”.

وكان من شأن هذه الوثيقة أن تمثل أرضية صلبة للجمهورية اليمنية حديثة العهد، وتحقنها بمصل الديمومة وتحصنها من فيروس الهيمنة. ولكن هذا لم يرق للقوى اليمنية بالشمال باستثناء قوى مدنية ووطنية يسارية. ولما كانت هذه الوثيقة التي كانت ستُـثبّـتُ أقدام قوة القانون على حساب قانون القوة والهيمنة الفوضوية للقوى النفعية إن كتب لها النجاح على وشك أن تغدو مشروعا على أرض الواقع، ولأن هذا يعني بالضرورة لهذه القوى نهاية لحقبتها التسلطية وانبثاق عهد جديد اسمه دولة القانون المدنية، فلم يكن أمام هذه القوى إزاء كل هذه المؤشرات إلا أن تحشد وتستنفر كل طاقاتها وتطوي تبايناتها السياسية والقلبية لإفشال هذا المشروع السياسي الطموح الذي كان قد تم التوقيع عليه أمام العالم كله (بالمملكة الأردنية الهاشمية) مطلع 1993م، وكان لها -أي تلك القوى – ما أرادت، حيث أجهزت على هذا الحلم بعد حرب عسكرية بصبغة دينية مقيتة، أفضت بالأخير إلى إعادة قوة الهيمنة الشمالية إلى سابق عهدها، بل وأكثر قوة ونفوذا، وكان الجنوب هو الفريسة الكبرى المتوقعة التي يُـنهش جسدها بين مخالب النهب وأنياب الإقصاء وبراثن البطش.

واليوم حين نرى هذه القوى؛ حزب “الإصلاح” ومعه القوى النفعية الجنوبية التي شاركت الحرب والنهب على الجنوب، والتي كانت مجتمعة رأس حربة في حرب إفشال وثيقة عهد عام 1993م بالشراكة مع القوى التي تحاربها اليوم في صنعاء، والتي وضعت الدين في خدمتها، وهي ذاتها التي سامت الجنوب والشمال على حدٍ سواء أصناف المعاناة، تتحدث عن ضرورة بناء دولة العدالة والمساوة فهي قطعا لا تتحدث عن ذلك إلا لحاجة هي في نفسها، تروم من خلالها التخلص من القوى التي ما تزال تحكم صنعاء اليوم من قوى الحوثيين وصالح لتخلفهم بالحكم تحت شعارات براقة باسم الدولة الإتحادية المزعومة. هذه القوى هي أول من وقف بوجه مشروع دولة القانون عام 1993م، وأفشلته بقوة حديد المدافع ونار الفتاوى. وهي اليوم قطعا لن تتعامل مع مشروع الستة أقاليم إلا من باب المخاتلة والفهلوة الحزبية، وستعمد إلى مسخه وإفراغه من محتواه لأن هذه القوى أصلا هي قلب المركز المقدس بكل تفرعاته القبيلة الدينية والسياسية والعسكرية والمالية، وبالتالي من المستحيل أن يحارب أحد ذاته ولنا تجارب كثيرة بهذا الشأن. وليست شعارات وخطابات ثورة 2011م عنا ببعيد. فقد تم الدوس على هذه الشعارات وتمزيقها على عتبات الوزرات والمصالح الحيوية التي تسلمتها هذه القوى من شريكها القديم الجديد بحسب تسوية المبادرة الخليجية، التي نصت على تقاسم المناصب والمكاسب بين قوى الحكم التي كانت حينها ما تزال في الحكم ممثلة بحزب “المؤتمر الشعبي العام” وبين حزب “الإصلاح” الذي كان قد خرج جزئيا وبصورة مؤقتة من الحكم على إثر خلافات انتخابات عام 1997م النيابية، ليعود ثانية ليتقاسم كعكة الفساد الذي ظل لعدة سنوات يحدثنا عن رذائله ومساوئه. وها هي هذه القوى بقيادة حزب “الإصلاح” تعيد الكرة ثانية وبخطابات ديماغوجية مخادعة ومكررة، ولكن هذه المرة بثوب قشية اسمه الدولة اليمنية الإتحادية، في ثناياه تختبئ شياطين السياسية وفي معاطفه تكمن مردة الإحتلال والتسلط.

خلاصة: الغباء هو أن تفعل الشيء ذاته مرتين بذات الأسلوب وبنفس الخطوات، وتنتظر نتيجة مختلفة!

عن: العربي

زر الذهاب إلى الأعلى