العرض في الرئيسةفضاء حر

بلاد نذبحه

يمنات

لطف الصراري

نحن اليمنيّون لا نجيد التعبير عن أنفسنا، وإذا فعلنا، نقفز على التفاصيل الصغيرة التي بدونها لا يمكن فهم اليمن وأهلها كما هم عليه فعلاً؛ تفاصيل على شاكلة عاداتنا اليومية وأمزجتنا في مسائل الذوق العام والخاص، من تفضيلات الأطعمة إلى أعراف وتقاليد الإختلاف أو حتّى الحرب.

معروف أن مشكلة التعبير عن الذات الخاصّة والعامّة ترتبط بفهم الإنسان لنفسه كفرد أوّلاً، ثمّ فهم نفسه في سياق الإنتماء العام، بدءاً بالأسرة وصولاً إلى التعريف الوطني والقومي والديني… إلى ما هنالك من الإنتماءات الجمعية. ناتج هذا الفهم ينعكس في قدرة الفرد على التعبير عن نفسه في سياق الإنتماء العام؛ ما الذي يعرفه اليمنيّون عن أنفسهم غير حرصهم على إكرام الضيف ونزعة الإستقلال والإستعداد الكامل لخوض حرب من أجل شبر من التراب أو أقلّ من ذلك؟!

والمفارقة أنّه عندما يتمّ وصف المجتمع اليمني بهذه الصفات، نسمع أصداء التباهي الفارغ تطغى على كلّ صوت حي. الجميع يتباهون بكونهم ينحدرون من مجتمع يستسهل القتل لأبسط الأسباب.

في كتابه “ملوك العرب”، يروي أمين الريحاني قصة ظريفة ليمني قصد مقرّ إحدى الصحف في نيويورك للحصول على كتاب تعليمي للغة الإنجليزية. كان الريحاني هناك، وعندما عرف هوية الرجل، أخبره بأنّه يعتزم زيارة اليمن، وطلب منه أن يحدّثه عن البلاد.

قال الرجل، بلهجة يمنية وصفها الريحاني بـ”الناعمة واللطيفة”، “بلادنا طيبة الهواء والماء ولكن أهلها دائماً في احتراب”.

نبرة الكلام وتبدّل ملامح الوجه هي إحدى سمات التعبير، وعندما لا تثير عبارة كهذه شعوراً بالأسى لدى قائلها أو متلقّيها، فهو إمّا فاقد للإحساس أو ماكر. وبالنسبة ليمني يبدو أنّه وصل نيويورك لتوّه، لا بدّ أن فقدان الإحساس بالذات كان لا يزال رفيقه المخلص في غربته.

كان الريحاني قوميّ الهوى ويريد أن يزور اليمن ضمن عدّة بلدان عربية لتقريب وجهات نظر حكّامها بشأن الوحدة على أساس القومية وليس الدين. لذلك استرسل في الحديث مع اليمني الذي يريد تعلّم الانجليزية. سأله: هل يحكم الإمام يحيى اليمن كلّه؟ فأجاب بالنفي: “هو يحكم جزءاً صغيراً منه، ونحن أهل اليمن لا نخضع لأحد دائماً. نحارب دائماً لأجل الحرّية… نذبح أقرب الناس إلينا لنكون مستقلّين. نقول للإمام لا نريد هذا الرجل حاكماً وننصّب شيخاً منا ليحكمنا”.

تمّ عبر الأزمان تكريس صورة اليمني الذي لا يعرف عن نفسه وعن مجتمعه سوى أنّه شهم، حرّ، وقاتل بالفطرة

“وإذا رفض عامل الإمام التنازل عن منصبه؟” سأل الريحاني متطلّعاً للجواب الذي سيدخله في دوّامة لا تهدأ من الأسئلة. وبلهجة هادئة، أجابه اليمني: “والله نذبحه”، “وإذا جاءكم أجنبي”؟ “والله نذبحه”، “وإذا تنكّر؟”، “لو عرفناه والله نذبحه”. واستمرّ الرجل في لهجته الناعمة والهادئة يتحدّث عن الذبح في اليمن باعتباره مرادفاً لتمسّك اليمني بقيم الحرّية والإستقلال، بدون أن يفكّر بأن من يسأله لا ينوي زيارة اليمن لاحتلاله، بل لتأليف كتاب عنه وعن سكّانه وحكّامه.

زار أمين الريحاني اليمن عام 1922، وطوال طريقه إلى عدن ثم إلى صنعاء، ظلّ يسمع المزيد عن بلاد “نذبحه”، تحذيراً وتنويراً بعادات وطباع أهل اليمن. وفي طريقه من ذمار إلى صنعاء، كان مرافقه أحد المقرّبين من عامل ذمار، ويبدو أن المرافق أشبع فضوله بتفتيش دفتر الرحّالة منذ اليوم الأوّل لمهّمته. وفي الفقرة التالية، مقتبس من كلام واحد من النخبة حينها، حول طبائع اليمنيّين:

“شكوت بيوتنا الضيقة ونوافذها الصغيرة، فلو سحت في عسير لوجدت البيوت هناك أضيق وأظلم. أتعرف السبب؟ لا يزال أهل اليمن وعسير وحشيّين، لا يثق الواحد منهم بأخيه، ولا يركن إليه. حياتهم خوف دائم واضطراب… ما قيمة هذا – فنجان القهوة – ولكنّه حقّي، إذا اغتصبته مني… أستلّ هذه الجنبية وأذبحك. هذه طريقتنا في اليمن. وإذا حدث قتال بين أسرتين في هذه القرية مثلاً، ينضمّ أهلها إلى المقاتلين وقد انقسموا حزبين، فتشبّ في القرية نار الحرب، وعندما تنطفئ يتساءلون عن سبب القتال بين فلان وفلان. يقاتلون أوّلاً ثم يسألون عن السبب”.

عندما يقولون في شمال اليمن “نذبحه”، فذلك واضح من السياق ومن معرفة لهجة القبائل، إنّها صيغة مبالغة لفعل القتل طعناً أو بالبندقية، ونحن نتحدّث عن مجتمع كان يسمّي إفرازات معدته “زخارف”، ويتحدّث باستحياء للأجنبي عن واحدة من أقدم طرق الصرف الصحّي وأكثرها حفاظاً على البيئة، وهي ظاهرة بيع مخلّفات الإنسان لاستخدامها وقوداً للحمامات.

نحن الآن في زمن تعدّدت فيه وسائل وأساليب المعرفة، ومع ذلك، لا يزال هناك من يتباهى بكونه من بلاد “نذبحه”، ومستعدّ للمقامرة بالبلد وأهله من أجل ترسيخ انطباع العالم عن شخصية اليمني الذي يقاتل أوّلاً ثم يسأل عن السبب؛ اليمني الذي يقتل أقرب الناس إليه لأجل فنجان قهوة. والنتيجة، أنهّ تمّ عبر الأزمان تكريس صورة اليمني الذي لا يعرف عن نفسه وعن مجتمعه سوى أنّه شهم، حرّ، وقاتل بالفطرة، وأن قيم التعايش التي احتكم لها اليمنيّون عبر العصور، كانت مجرّد عادات دخيلة على المجتمع، بينما ما من شعب لديه من قيم التسامح والتعايش مع الآخر، مثلما لدى الشعب اليمني.

عن: العربي

زر الذهاب إلى الأعلى