العرض في الرئيسةفضاء حر

هل تعمدت امريكا الحاق اليمن بسوريا وليبيا..؟

يمنات

لطف الصراري

في مؤتمر صحافي عقده في سبتمبر 2014، قال السفير الأمريكي في صنعاء، ماثيو تولر، إن الولايات المتّحدة الأمريكية ليس لديها “حلّ سحري” لمشاكل اليمن.

كان ردّه مقبولاً، بل ومنطقياً، لو أنّه اكتفى بنفي امتلاك بلاده للعصا السحرية، غير أنّه أضاف، وبمقتضى المنطق الدبلوماسي نفسه عندما يكون الوقت قد حان لتوجيه رسائل صادمة، أنّه إذا لم يحلّ اليمنيّون مشاكلهم عبر الحوار، فإن البديل عن ذلك هو ما نراه في سوريا وليبيا.

تساءلت في نفسي: لماذا لم يضف العراق إلى السيناريو الذي بدا أنّه يرى اليمن متّجهاً إليه..؟ لكنّني تذكّرت أن للعراق مكانة استثنائية في السياسة الأمريكية؛ مكانة تجعله بمنأى عن التشبيه ببلدان حديثة التفكّك أو مازالت في طريقها إليه.

في ذلك اليوم، الذي سبق دخول جماعة الحوثي صنعاء بأربعة أيّام فقط، تعدّدت الصيغ التي تحدّث بها تولر عن التزام بلاده تجاه منع تطوّر الصراع في اليمن.

وبينما كانت قوّات الحوثيّين على مشارف صنعاء من الجهة الشمالية الغربية، والمعارك تزداد ضراوة لكي يدخلوا العاصمة بقوّة السلاح، ظلّ تولر يكرّر تصريحات سابقة تفيد بالمضمون نفسه، ومنها تلك الصيغ المزخرفة بعبارات من قبيل “لن يهدأ لنا بال…”، وذلك في سياق الحديث عن حرص أمريكا على الاستقرار في اليمن. لكنّه، مع ذلك، لم يقم من مكانه قبل أن يغذّي السيناريو البديل ببعض الاحتمالات؛ “المراحل الانتقالية ليست سهلة إطلاقاً… وكما رأينا في هذه المنطقة (الشرق الأوسط) أن المرحلة الانتقالية قد تقود إلى حروب أهلية أو عنف لفترات طويلة”، “يجب أن نكون واقعيّين فيما يتعلّق بالإمكانية المتاحة لدعم اليمن؛ رغم حجم الولايات المتّحدة، إلّا أنه ليس لدينا حلّ سحري لمشاكل اليمن…” أضاف تولر قبل أن يعتذر عن أيّ “أخطاء” شابت سياسة أمريكا تجاه اليمن.

كان تولر قد وصل لتوّه صنعاء، بعد تأخّره شهرين منذ إعلان تعيينه خلفاً لجيرالد فايرستاين. كما أن تعيينه كان قد تأخّر ثمانية أشهر منذ غادر فايرستاين. ورغم أن ابتسامته بدت أقلّ مكراً من ابتسامة سلفه، إلّا أن السفير الجديد لم يفقد طريقة الحديث الأمريكية التي تبتكر، بمساعدة المنطق، أساليب جديدة في المراوغة وألعاب العقل.

بعد هذا الاعتذار الذي قدّمه بملامح وقورة، أطلق تولر وعداً بأن أمريكا “لن تتخلّى عن اليمن”. ولم يمض الكثير من الوقت حّتى بدأت وكالة الاستخبارات المركزية بكشف ما لديها من معلومات لتحديد أهداف الطائرات السعودية. علاوة على ذلك، وبعد أيّام من بدء السعودية عدوانها على اليمن، صرّح مسؤولون أمريكيون بأن التعاون الأمريكي مع السعودية في هذه الحرب، يقتصر على “الدعم اللوجستي والاستخباراتي”.

الآن، وبعد مضيّ سنة وخمسة أشهر من الحرب الشاملة في اليمن، وافقت الخارجية الأمريكية على تزويد السعودية بأسلحة مختلفة تتجاوز قيمتها مليار دولار. في ما يتعلّق بالدعم الاستخباراتي، لا يختلف اثنان حول ما شكّله الفريق الأمريكي في لجان “هيكلة الجيش”، من أهمّية لإثراء ملف اليمن في “سي آي إيه”. ونحن نتذكّر أن الانتقادات التي كانت تُوجّه لإدارة أوباما حتّى عام 2010 بشأن “مكافحة الإرهاب”، كانت تركّز على ضعف الجانب الاستخباراتي لواشنطن في اليمن.

الاعتقاد بأن الملفّ اليمني يأتي في الترتيب قبل الأخير يعني أن مرض سوء التقدير ما زال يطوّر قدرته التدميرية.

منذ بدء الحديث عن المرحلة الانتقالية الثانية، صارت اللغة الدبلوماسية لواشنطن أكثر تشاؤماً بخصوص “الانتقال السياسي”. والتصريحات التي كانت لا تغفل الإشارة لحرص أمريكا على “مستقبل الشعب اليمني”، صارت تشيطن أطراف الصراع الداخلي بالتناوب. نوع من السياسة التي اعتاد كثيرون على تسميتها بسياسة “الجزرة والعصا”.

قبل وصول تولر إلى صنعاء، سبقته نائبته كارين ساساهارا. وقد احتفظت بصفة “القائم بأعمال السفير” لما يقارب السنة، نظراً لتأخّر تعيين السفير، ولاحقاً بسبب عدم انتظام إقامته في اليمن. في أحد المؤتمرات الصحافية التي عقدتها ساساهارا خلال تلك الفترة، قالت إن “من الأفضل أن يتّفق اليمنيّون على حلّ قضاياهم الخلافية، قبل أن يدفعهم الآخرون للتوافق”. كما تحدّثت مراراً عن أن المرحلة الانتقالية الثانية “ربّما تكون محفوفة بالمخاطر ومحبطة…”.

ومع تصاعد الفوضى السياسية والأمنية بالتزامن مع ما كان يفترض أنّها “المرحلة الانتقالية الثانية”، تولّت ساساهارا ترجمة الموقف الأمريكي الداعم لتمديد فترة الرئيس عبدربه منصور هادي؛ الرئيس الذي استحوذ عليه هاجس تمديد رئاسته، أكثر من إثبات قدرته على قيادة البلاد وحماية مؤسّسات الدولة، من عبث الأطراف المتصارعة على تقاسم السلطة والثروة. صحيح أن لملمة الانفلات الذي أعقب “ثورة فبراير 2011” لم تكن بالمهمّة السهلة، لا سيّما في ظلّ انخفاض المسؤولية الوطنية في أداء جميع الأطراف، غير أن التعويل على استيراد التوافق السياسي من الخارج، كان ولا يزال أسوأ صفقة في تاريخ أيّ بلد.

رغم الفروق في حجم الدمار الذي تخلّفه الحرب المستمرّة فيه وعليه، فقد التحق اليمن بسوريا وليبيا. وإذا ما نظرنا إلى الأمر من زاوية أشمل، فقد التحقت البلدان الثلاثة بالعراق. ربّما يجدر بنا الآن التفكير بنسبة الأهمّية التي تحتلّها ملفّات البلدان الأربعة في سياق الصراع الدولي، ومساعي السلام طويلة المدى. الاعتقاد بأن الملفّ اليمني يأتي في الترتيب قبل الأخير، يعني أن مرض سوء التقدير ما زال يطوّر قدرته التدميرية في عقولنا. وسوء التقدير هذا لا تنتج منه فقط الاستجابة السريعة للعنف، بل عدم إدراك مصلحة اليمن في السياق الدولي؛ ما الذي نريده من المجتمع الدولي وماذا يريد منا.

معروف أن العلاقات بين الدول تُبنى على المصالح المشتركة، وفي لغة السياسة كما في لغة الحرب، يسود منطق “الانتخاب الطبيعي”: البقاء للأقوى. ما زال العالم يحتكم للقانون البدائي الناظم للعلاقة بين التجمّعات البشرية. وطوال مراحل التطوّر الإنسانيّ، وصولاً إلى تثبيت الهويّات في جوازات السفر، ظلّت القيم والأخلاق تمشي في مسار هامشي لتشكّل الدول، وعرضة لانتهازية المنطق الدبلوماسي؛ تلك اللغة الناعمة التي تدعو للحوار دون أن توقف إرسال شحنات الأسلحة إلى مناطق الصراع. وعندما تخرج الأمور عن السيطرة، يكون التلاعب بمنطق “الخير والشر” على أهبة الاستعداد، لتبرير الأخطاء السياسية وما يترتّب عليها من جرائم.

زر الذهاب إلى الأعلى