العرض في الرئيسةفضاء حر

في رثاء الصديق عبد الرزاق الأغبري

يمنات

أحمد سيف حاشد

(1)

– حضرت عزاء صديقنا الراحل الدكتور عبد الرزاق الأغبري وشعرت أن روحه تحلق فوق رؤوسنا وتخفف من غصة فراق موحش وأبدي، وأجمل ما سمعته في قاعة العزاء، وكان فيه كل العزاء، ما همس به صديقي علي الجلعي عندما قال: “انظر إلى جميع من في القاعة.. لم نشاهد فاسداً واحداً فيمن حضر” كم كان لوقع كلماته وشهادته من أثر ورحمة وعزاء..

– سمعتُ يومنا هذا من قاضينا العزيز عبد الوهاب قطران ونحن نتحدث عن الدكتور عبد الرزاق الأغبري ما وددت أن أسمعه، بل أفضل ما سمعته منه، وكأن ما قاله، كان وحياً من إله أو قبس من نبوة، ولم يسعني إلا أن أشكر صديقنا الراحل الغائب لأنه علمنا درسا مريرا ولكنه يفيض بالحكمة التي لطالما كنّا أحوج إليها ولدرسها المرير.

– وجدت كثير من الأصدقاء وتابعت ما يكتب وينشر عن الدكتور عبد الرزاق الأغبري وعرفت أن كثير من الأصدقاء لم يكونوا يعرفوا إنه كان يعيش محنة مرض السرطان .. لا أعرف لماذا لم يبح لنا الراحل إنه مريض بالسرطان!! شخصيا عرفت هذا فقط قبل يومين من وفاته أو أقل .. أو ربما نحن لم نتابع حالة الرجل كما يجب، أو لم نسأل وكان علينا واجب السؤال .. خذلناك يا صديقي في زمن لم يعد فيه متسع إلا للخذلان.

– لم ندرك معاناة الرجل، وللأسف أدركناها متأخرين .. ومتى؟؟؟ بعد رحيله .. لم يعرف كثير من أصدقائي ما كان يعانيه صديقنا الأغبري في آخر أيام حياته.. انشغلنا عنه وأشغلتنا هذه الحرب، وأغرقتنا في كثير من التفاصيل وأنستنا من كان يجب أن لا ننساهم .. زحمة الموت أنستنا السؤال والأصدقاء وأشياء كثيرة..

– ربما عاقبنا القدر وأراد أن يديننا على تقصيرنا ويقول لنا أنتم قوم لا يفوق إلا بما يُصدم ويُصعق .. فأنتزع من بيننا عزيزاً وكأن القدر قد قصد أن يصيبنا بحميم.

– كان ينبغي أن نفهم رسالة الراحل كما يجب وذلك في نشر صورته قبل وفاته وهو وحيدا في المسجد يقرأ القرآن، وصورته وهو في غرفة العناية ولم يبق من الملامح إلا وداعا وعتاب .. وحتى مع شعورنا بخوف الفقدان تأخرنا في التفاعل والرد ولم نكن نعلم أن القدر لم يعد يستحمل الإمهال.

(2)

– كثيرون يا صديقي من قصّرت معهم، ورحلوا وقد تركوا لنا في الحلق غصة لا تموت .. مرافقي أخ زوجتي “عادل صالح يحيى” طلبني أن أحضر إليه قبل أن يموت، فأوعدته أنني سأتيه بعد ساعتين لأنني مشغول في عمل الجمعية، وقبل الساعتين جاءني صوت زوجتي مملوء بالبكاء والفجيعة: “عادل مات” .. مات دون أن يعتب، ولكنه رحل بصمت وكان في صمته ألف عتاب واحتجاج .. خذلته، وخذل القدر الجميع.

– بكيل علي حاشد ابن عمي وزوج أختي مات بحادث سيارة في تعز ولم أحضر جنازته ولا دفنه، وكان حضوري ضرورة، ولكن قلت “الحي أبقى من الميت” حيث كنت أحضِّر لمسيرة في العاصمة صنعاء.

– ردمان النماري وأنور هزاع لم يتركا لي من الكلام إلا القول “كم أنا جاحد وكم أستحق من تأنيب الضمير” اثنين من أهم من ساندوني في حملتي الانتخابية التي كانت تحت شعار “اختاروا من يمثلكم لا من يمثَّل عليكم” أوفيت بالشعار الذي قطعته لهم أو هكذا أظن، ولم أوفِ بواجبي نحو ذويهم.

– صديقي ورفيقي الثائر النبيل سميح الوجيه كان يفترض أن نلتقي وأجلت لقاءنا أسبوع لنلتقي في الأسبوع الذي يليه، فسبقنا الأجل وأخذه منا قبل موعد لقاءنا في حادث سير، حتى بدا لي أن القدر مخاتل وغادر وعنيد .. ولا أنكر أنني قد قصرت نحو أهله وذويه.

– وأنت يا صديقي ويا صاحب القلب الكبير أضافك القدر إلى قائمة من قصرت بحقهم، ربما لأنني لم أكن أعرف أو لم أنتبه بأنك مصاب بمرض السرطان، وكنت أعتقد أن مرض السكر هو من يأكلك حتى بديت على ما بديت في الصورة التي شاهدتها في صفحتك قبل يومين أو ثلاث وأخبرتني في رسالتك أنه السرطان، أو كنت أنا الغبي والمقصِّر الذي لا يسأل ويكتفي بتمني لك الشفاء و وافر الصحة والعافية كلما مررت على شكواك من المرض.

– نعم أنا أعترف أنني لم أتصل، ربما سهوا واستسهالا واكتفاء بالفيس والمتابعة والرد على رسائلك على الخاص أو الغرق بتفاصيل أخرى، أو عدم علمي أن قدرك كان مستعجل رحيلك على ذلك النحو..

– واجمالا أقول لقد أفحمني عتابك وترك الرحيل والعتاب ندوبا لا تزول في الوجدان والذاكرة، وسيظل تأنيب الضمير إلى آخر العمر، وكل دفاعي أمام كلماتك المعاتبة هش وضعيف، وأنت الأستاذ والمحامي والنبيل..

– لا بأس من الاعتراف، ففي الاعتراف نصف شفاعة واعتذار يا كل أصدقائي.

(3)

من نص رسالة خاصة بعث بها لي الدكتور عبد الرزاق الأغبري قبل وفاته بيومين:

– قاضي احمد حاشد هاشم .. هؤلاء يا أخي هم ابائي أو اصدقائي من دول عدة من افريقيا تشاد والصومال ووو لاني ومنذ اعوام كنت قد قدمت السبت على الاحد كما يقال في المثل، وهاهم اليوم تراهم مع اطفال دار الايتام بماليزيا يأتون لزيارتي في المستشفى!! قدمت السبت فاتانا ضاحكا..

– هههه منذ ايام وانا مفروض عليا الصيام تماما فقط الدواء مسموح عبوره وكم قرطاس حليب صغير..

– ولأن تجربتنا معا عند مجلس الوزراء بالإضراب عن الطعام .. فتلك تجربة في مسار حياتنا النضالية لكنها لها فائدة هنا اليوم..

(4)

من نص رسالة خاصة بعث لي بها الدكتور عبد الرزاق الأغبري قبل وفاته بيومين: “وهكذا انتهى بنا المطاف يا قاضي احمد اشقاء متفرقين بل متمزقين، ها انا ارقد في احدى اكبر مشافى ماليزيا!! على حسابي الشخصي!! لا حكومة شرعية قالت نحن هنا ولا قوة السيد عملت نصف اتصال ولا حزب ولا منظمة مدنية ووو قالوا بمنحة علاجية”.

(5)

– كانت رسالتك على الخاص يا صديقي قاسية جدا وجافة، أو هكذا أحسست بها، وكأنك تريد أن تدينني بها .. لابأس .. كثيرون هم الذي ماتوا من أصدقائي وأدانوني قبل الرحيل، وربما بعده أيضا..

– أنا يا صديقي لا أجيد “الإتكت” واللياقة بل وحتى اختيار الكلمات في كثير من الأحيان .. أنا مهمل وغافل ومشغول ومقصِّر، وأحيانا لا أحسن اختيار اللحظات التي يجب أن أحسن التصرف فيها، ولا يوجد من يساعدني في اختيار هذه اللحظات، وأحيانا تسرقني اللامبالاة ثم أندم كثيرا ولم يبق لي من العمر إلا الندم..

– أنا يا صديقي منهمك بالحياة والشغل ومزحوم ومشتت، ومُستسهل، ومدان بالتقصير، وربما أيضاً أناني وإن أنتفى لدي القصد.

(6)

قرأت رسالتك يا صديقي والتي وردتني على الخاص قبل يومين من رحيلك، ولم أرد عليها بل أمهلتُ نفسي يومين لأحسن الرد، ولكن القدر كان أعجل وأسرع .. لا أدري لماذا القدر يريد أن يدينني وأن يقيم عليَّ الحجة ويدمغني بالدليل ويعاقبني بتأنيب الضمير.

(7)

– كم هو القدر عجول .. شاهدت صورتك قبل يومين في صفحتك وانتابتني غصة وخامرني الشعور بالفقدان، ولم أستطع أن أعلِّق على صورتك بأكثر من القول إنك يا صديقي تنقرض، أتمنى لك الشفاء العاجل ووافر الصحة..

أعرف أنه كلام تافه ولا يليق بصديق يتهدده الموت، ولكن هذا الموت الباذج الذي يحاصرنا ويداهمنا كل يوم أظنه أفقدنا الإحساس والشعور بأهمية ما هو لازم وواجب حيال أصدقاء أعزاء.

زر الذهاب إلى الأعلى