العرض في الرئيسةفضاء حر

متى ستأتي “يد حانية” تضغط على الجرس لنفتح الأبواب للحياة التي نستنا..؟

يمنات

فكري قاسم

عشت حياتي كلها وأنا أحلم بأن يكون لدي في المستقبل بيت مؤثث بعفش جميل وسرير مريح ودولاب ملابس، وصالة فيها كنب وموكيت وتلفزيون ولوحة صغيرة عرض جدار الشقة من الخارج مكتوب داخلها: “منزل الاستاذ / فكري قاسم”، وإلى جوارها ضاغط جرس يستخدمه الزوار.

كان الجرس بالنسبة لي علامة الرفاهية والتحضر، ومش ضروري يكون معي جرس للسيارة في البيت، باعتبار أن ذلك من الأحلام المؤجلة، وباعتبار أن السيارة التي كنت أحلم اشتريها عادها في دهاليز الأحلام أما الجرس عرض الباب فكان أمراً ميسراً، وهو عندي من أهم الأشياء التي سأشعر معها بحركة الزمن والعصر.

إشتغلت ليل نهار في سبيل تحقيق حلمي ذاك، واستأجرت بيت فرشته خلال 12 سنة من الكد والشغل بأثاث محترم، وزودته ببعض الزينة ولوحة عرض الباب مكتوب داخلها: “شقة الأستاذ فكري قاسم”، وكان موجود فيها جرس عرض الباب، كنت كلما أعود إلى البيت وأقرعه أشعر بأنني ملك الزمان اللي يصيح “إفتح يا سمسم”.

و كنا عايشين بسلام، وبينما كنت أخطط للخطوة الثانية من الأحلام، اندلعت الحرب وانهالت قذائف مدفعية الحوثيين على حاراتنا في تعز، وهربنا من البيت في ليل مخيف هاربين من الموت ونازحين إلى القرية كفترة مؤقتة على بال ما تهدأ الأمور ونعود إلى بيوتنا ومنازلنا، ومضت خمسة أشهر واحنا نازحين وبيوتنا في تعز مفتوحة للسرق بعد أن عمت الفوضى المدينة، ولم أدر إلا وأثاث بيتي اللي جلست اشتريه على قطعة قطعة لمدة 12 سنة قد أصبح معروضاً للبيع في سوق الحراج.

لقد دخل إليه اللصوص، طبعاً من دون أن يقرعوا جرس الباب، وسرقوا كل محتوياته، ولم يتركوا منه غير تلك اللوحة اللعينة عرض جدار الشقة الخارجي، والتي مكتوب فيها “شقة الأستاذ/ فكري قاسم”.

حمدنا الله وشكرناه وقررنا الانتقال للعيش في صنعاء هرباً من ضنك الحياة في القرية، ولم يعد لدي حينها أية أحلام من تلك الأحلام الغبية … كنت قد أصبحت مجرد كائن يبحث عن الأمان حتى ولو داخل جحر الحمار الداخلي. ومش ضروري يكون في جرس ولا أم الجن … المهم يكون للشقة باب يتقفل ونعيش بأمان.

و بدأنا رحلة الهروب الثانية من تعز إلى صنعاء، بعد أن كانت رحلة الهروب الأولى من تعز إلى القرية. وفي صنعاء طبعاً اشتريت ما استطعت أن أشتريه من الأثاث للبيت الجديد الذي استأجرناه في عطان، وأصبح لدي أنا وعائلتي هناك شقة بلا لوحة مكتوب عليها “منزل الأستاذ فكري قاسم”، ومن دون جرس، ولم أبال بأي من تلك الاحتياجات السمجة. واستلفت من صديقي عبد الله الذي يبيع أدوات الطاقة الكهربائية تلفزيون ومنظومة طاقة كهربائية، وبدأنا الحياة نتابع الأخبار في انتظار الفرج.

و كان من سوء حظنا أننا لم نجد بيتاً مناسباً للسكن بسعر معقول سوى في عطان. كان الحي حينها قد أصبح موحشاً والبيوت مهجورة، وقلنا إن الحرب قد انتهت، وإن عطان لم يعد هدفاً لطائرات “التحالف” بعد تلك القنبلة المخيفة التي قذف بها الطيران في الأشهر الأولى من الحرب.

كانت قد مرت أكثر من سنة على اندلاع الحرب، وكلها شهرين فقط منذ أن سكنا البيت الجديد في عطان، إلا وعاودت طائرات “التحالف” قصفها للجبل الذي كنا نسكن على مقربة منه، وضاقت بنا الحياة هناك، لم نعد ندري إلى أين نذهب..؟ وكيف نواصل الحياة تحت قصف الطيران الذي لم يكن يفعل شيء غير أنه كان يخيف عائلتي و والدتي المسنة التي تضاعف عندها المرض بسبب الخوف.

الأحداث الأخيرة التي شهدتها صنعاء منذ انتفاضة الرئيس السابق صالح، أوصلت المواجهات إلى منزل نجله السفير أحمد علي، حيث كنا نسكن على مقربة منه، وعشنا ثلاثة أيام مرعبة قررنا بعدها الهرب من صنعاء إلى عدن ونحن لا نعرف أين سنسكن وكيف سنعيش، وهذا هو الأسبوع الثاني عموماً وانا أعيش صحبة عائلتي حياة الفنادق في جناح أثاثه جميل ويوجد عرض جدار الجناح من الخارج جرس لا يرن.

لا أعرف كم سنعيش هنا، ولا ما هو المصير الذي ينتظرنا، وهذه طبعاً ليست معاناتي لوحدي، كثير من الناس يعيشون هذا الحال في انتظار أي يد حانية تضغط على الجرس لنفتح الأبواب للحياة التي نستنا.

المصدر: العربي

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

زر الذهاب إلى الأعلى