العرض في الرئيسةتحليلات

الجنوب بين أوامر واشنطن وخُطط الرياض

يمنات

حين تقول أمريكا على لسان نائب مساعد وزير خارجيتها تيم ليندركينغ، إن «هناك مجالاً للحوثيين في التسوية السياسية باليمن إذا لم يهاجموا السعودية أو يهددوها، وإن المسار الأفضل في اليمن هو الدبلوماسية النشطة».

حين تقول أمريكا مثل هذا، فهي تنطق بلسانٍ سعودي مبين، سواء شاءت المملكة أم لا. وهل بوسعها، وغيرها من دول الجزيرة والخليج الواقعة تحت سطوة الإذلال الأمريكي، أن تقول لدولة متعجرفة ويقودها رجل مهووس بالمكاسب المالية كترامب، لا..؟.

هذا يؤكد قطعاً أن أمن المملكة، وبالذات على الحدود الجنوبية ووقايتها عمقها من صواريخ استراتيجية يمنية مستقبلا، هو الهمّ الرئيس والشغل الشاغل للسلطات السعودية، ليس من هذه الحرب أو من قبلها، بل منذ عشرات السنين، حتى حين كانت المملكة تتمدد جنوباً داخل اليمن سواءً اليمن الشمالي أو الجنوبي، وتبتلع مزيداً من الأراضي اليمنية منذ ثلاثينات القرن الماضي، لم يكن هذا التوسّع والابتلاع لتلك الأرضي بضخامته، لغرض التوسّع الجغرافي فقط، على أهميته طبعاً، بل كان جزءً كبيراً منه يأخذ الحسابات الأمنية المحضة.

فبالتوازي مع حرص المملكة على إبقاء اليمن – شمالاً وجنوباً – ضعيفاً فقيراً ومنشغلاً بصراعاته الداخلية السياسية الطائفية (كما يتم تكريسه اليوم أكثر وأكثر) كان وما زال الخوف مستبداً بالمملكة مِــن يمن قوي متماسك سياسياً وعسكرياً، وهو البلد الغني بالطاقات الطبيعية والبشرية والموروث التاريخي الضخم، زد على ذلك ما استجد في السنوات القليلة الماضية لدى العقل السياسي السعودي – نقصد هنا الحسابات الطائفية – وبات يطفو اليوم على السطح أكثر تحت تأثير «فوبيا إيران».

و لتفادي كل ذلك، طفقتْ الرياض تفعل ما تراه ممكناً للحيلولة دون نشوء دولة قوية على تخومها الجنوبية، كما ظل يحدث معها مراراً بالجهة الشمالية مع العراق طيلة عشرات السنين حتى غزوه 2003م.

فتاريخ التدخل السعودي باليمن لم يخل أبداً من الهواجس المفرطة أمنياً طيلة فترات تداخلاتها، وصولاً إلى الحرب الدائرة اليوم منذ 2015م. هذه الحرب كان البُـعد الأمني بمعية التطلعات الاقتصادية والجغرافية الأخرى هو الطاغي والمستحوذ على عقل صنّاع القرار السعودي، وهو المتسـيّد على قائمة الاهتمامات المتوخى تحقيقها من هذه الحرب.

و ما حكاية إعادة «الشرعية اليمنية المنتخبة ديمقراطياً» إلى صنعاء إلا وسيلة لتحقيق تلك الرغبات وتخطي تلك التخوفات، وعلى رأسها الأمنية. فكيف يمكن تفهّـمُ هذه الحرب من مبرّر سعودي، وهي المملكة ذات الحكم المطلق التي لا تعترف أصلا بشيء اسمه انتخابات، ناهيك عن ديمقراطية وجمهورية، إن لم يكن الغرض منه أمني بشكل أساسي، وقد جهر بذلك كثير من قادة المملكة في الآونة الأخيرة، منهم الأمير محمد بن سلمان.

أشرنا كثيراً في السابق إلى أن الهاجس الأمني السعودي، هو مؤشر البوصلة السياسية السعودية في اليمن، وعلى ضوئه يتم تقييم الأمور الأخرى، وتحدد من خلاله معايير أعداء المملكة وحلفائها.

ظللنا نقول هذا لكي نشير للنخب الجنوبية من أين تؤكل الكتف السعودية – والخليجية عموماً – وتتعاطى معه سياسياً بدلاً من الاندلاق مجاناً في حض الآخرين بطريقة مهينة، سيّما وأن العنصر الجنوبي عسكرياً وأمنياً هو الذي اتكأ وما زال يتكئ عليه «التحالف» منذ بداية هذه الحرب وحتى اللحظة، وبالتالي يكون الجنوب أولى بالاستفادة من تضحياته طالما وهو يمسك بالورقة الأخطر والأهم في نظر صانع القرار السعودي، وعبر هذه الورقة يتمكن من انتزاع حقه من بين مخالب حلفاء هم أشبه بضواري وسباع كاسرة، ولو على طريقة الابتزاز والضغوطات كما يحصل له من قبل هؤلاء أنفسهم من دون رحمة ولا شفقة.

فمستقبل اليمن السياسي والشروع بأية تسوية سياسية، أو حتى قرار الاستمرار في هذه الحرب لوقت أطول أو إيقافها بأي لحظة، كل هذا مرهون بمستقبل أمن البوابة السعودية الجنوبية، وما بعد الجنوبية، أقصد إلى العمق السعودي وبالذات في ما يتعلق بضمان عدم تغلغل الفكر الزيدي إلى الداخل السعودي، خصوصاً بعد إيقاظ الفكر الشيعي في المملكة في الآونة الأخيرة، والاطمئنان لعدم امتلاك السلطة اليمنية الحاكمة مستقبلاً – حتى وإنْ كانت موالية لها – أية أسلحة ثقيلة بما فيها بالتأكيد صواريخ استراتيجية، وإجبارها مستقبلاً من فوق طاولة التسوية السياسية المرتقبة أو من فوهة المدفعية، على إبقاء مساحة حدودية داخل الأراضي اليمنية منزوعة السلاح الثقيل، ومراقبة تسليح الجيش اليمني.

و بالتالي، يمكن القول باطمئنان إن التسوية السياسية القادمة للأزمة اليمنية، ومنها بالطبع القضية الجنوبية، أو حتى في حالة تم الحسم العسكري، ستكون وفق محددات أمنية خليجية – سعودية.

من المؤكد أن كل الأطراف الشمالية على اختلافاتها الحادة ستتمكن من الإفلات، ولو جزئياً، من مخالب وأنياب النمر السعودي والإماراتي، وستتعايش مع وضع ما بعد هذه الحرب التي لا شك أنها ستتوقف ذات يوم، ولكن ما لستُ متأكداً منه هو الحال الذي سيكون فيه الطرف الجنوبي – مع هكذا تسويات خليجية يتم التخطيط لفرضها – إنْ ظل يتعامى عن كل هذه الحقائق ويضع جهده وخدماته بالمجان لدى الآخرين نظير فتات من المكاسب، والتي ليس من بينها مكاسب سياسية ترتقي إلى حجم قضية سياسية ووطنية عادلة بحجم قضية الجنوب الكبرى، إن لم يحصل مستقبلاً أي تغيّر حقيقي في تفكير العقل الجنوبي المسؤول، أو «المسطول» إنْ شئت أن تقول.

المصدر: العربي

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

زر الذهاب إلى الأعلى