العرض في الرئيسةفضاء حر

عن رائحة “النرجس البري” و لم مدينة إب التي تنام بعد صلاة العشاء

يمنات

لطف الصراري

كانت رائحة النرجس البرّي في الشوارع الخلفية لحي الصلبة، تفوح بقوة في الفجر، وبعد ساعتين فقط، تختفي. تلك هي رائحة مدينة إب، حيث لا يلبث النهار أن يعجنها مع كل تفاصيل الحياة.

حينها، لم أكن قد عرفت شيئاً نظرياً عن العلاقة بين رائحة الأرض والأشجار التي يحتفي بها الليل والفجر، وبين الروائح التي يجلبها النهار؛ روائح البشر وعوادم السيارات، وأدخنة المطاعم وأفران الخبز.

حتى الأصوات التي تتدافع منذ بزوغ الضوء لتشكل ضجيج المدن، أظنها كانت تسلب النرجس البرّي رائحته النفاذة. المطر والليل فقط، هما من كانا ينقذان رائحة النرجس من الضجيج. لكن أحداً لم يكن ينقذني من صقيع الفجر، سوى النرجس البرّي في “صلبة” السيّدة أروى ومدرجات “حراثة”.

تلك الأماكن التي كانت غارقة في الوداعة والصمت الأخضر، صارت أحياء سكنية وأسواق وشوارع بحفر ترعب سائقي السيارات الصغيرة. لم تعد إب المدينة التي تنام بعد صلاة العشاء؛ هي الآن المدينة التي احتضنت النازحين من كل المحافظات الأكثر تضرّراً من الحرب، واختصاراً، صارت مخيم النزوح الأقرب إلى سكان تعز الذين شردتهم حرب الشوارع في مدينتهم المنكوبة.

بعد أسابيع قليلة من بداية الحرب على اليمن في مارس 2015، بدأت مدينة إب باستقبال النازحين من مدينة تعز على إثر اندلاع حرب الشوارع هناك. ثم ما لبثت أن استقبلت نازحين من الضالع وحرض وحتى من صعدة.

انتعشت الحياة في المدينة النائمة بخفر بارد تحت جبل بعدان، لكنها حياة مغصوصة بالتشرد ونقص المؤونة. مع ذلك، بإمكانك أن ترى في أسواقها رصات الخضار والفواكه الناتئة ببذخ من البسطات المضاءة بمصابيح زاهية.

ليست تلك علامة بذخ حقيقية، ربما تم ابتكار ذلك الترتيب الباذخ بصعوبة نفسية ومزاجية، فقط لكي يستجلب الزبائن الموسرين ممن لم تدهسهم عجلة الحرب، أو ممن أثروا على إثرها.

بالإمكان رؤية مثل هذه البسطات في مفرق ميتم، مفرق جبلة، سوق ديلوكس… وبالمقابل، تمكن، بسهولة، ملاحظة نقص منسوب الازدحام المروري في هذه الأماكن بما يقارب النصف عمّا كانت عليه قبل الحرب، عندما كانت سيارات المسافرين تعلق لما يقارب الساعة كي تتخطى سوقاً مزدحمة على الطريق العام.

أينما ذهبت الآن في أرجاء المدينة، لن تحظى برائحة النرجس البرّي. ربما احتفظت الأماكن ببعض الروائح العطرية، لكن ليس النرجس البرّي. إنها رائحة من النوع الذي تحفظه الذاكرة أكثر من الأرض.

وفي الطريق الرابط بين صلبة السيّدة أروى وحيّ الظّهار يمكن الاستمتاع بالقليل مما تبقى من رائحة ورد نيسان، الذي اعتادت بعض الأسر استخدامه مع الشاي بدل النعناع. غير أن المدينة فقدت الكثير من سحرها الأخضر. حتى أن اسمها الأثير «اللواء الأخضر»، الذي احتفظت به ألسن الناس قيد التداول حتى بداية العقد الأخير من القرن الماضي، خفت هو الآخر. مع ذلك، مازالت المدينة تحتفظ لكل ذاكرة فردية بما ترغب في حفظه.

المصدر: العربي

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

زر الذهاب إلى الأعلى