العرض في الرئيسةفضاء حر

من واقع الحال في زمن الحرب (2)

يمنات

أحمد سيف حاشد

(5)

عيد متصحر بالحرب والفساد

قريبي طيب جدا ومحب ونبيل، بل هو بعض منّا وعزيز علينا وكريم .. قريبي هذا مدرّس في أحدى مدارس العاصمة، وزّعت له المدرسة مجانا “قُطمة” أرز “أمريكي”، ولم أسأله من صاحب اليد التي امتدت بالعون والمساعدة لهذه المدرسة .. المهم أنه أهداها لنا على حساب حاجته، وبعذر يداري حساسية حقيقة دافعه الكريم .. شعرنا إنه فرج من ضيق إلى حين، وسندشن تناوله في مناسبة تستحق .. إنها مناسبة يوم العمال العالمي .. يوم يستحق الاحتفاء .. الأرز والمكرونة في ظروف الحرب وانقطاع الرواتب يليق بالإجازة والعيد، ويليق أيضا بضيوفنا، ومن لهم التزام علينا، والجميع في ظروف الحرب يلتمس العذر لبعض.

اعتقدنا أن الأرز الأمريكي أفضل من الصيني ومن غيره مما أعتدنا عليه وقد أنقطع .. أخذ الأرز وقتا طويلا على النار في ضغّاط فعّال، ولكنه فشل في تحقيق الحد الأدنى من المراد .. أول مرَة نشهد أرز مجالد ومنازل لا تلين له قناة .. أرز يبدو حتى الحمير لا تقوى على احتساكه .. من يغلب النار قطعا تفشل معه أسنان الحمير .. غالب النار حتى ألحق بها شر الهزائم .. النار تقطع في الحديد و تفشل أن تنال من أرزنا قليل .. ظل عنيدا وقاسيا لا يشبهه إلا عناد ساستنا أمام مطالب شعبنا .. تطاول الوقت وعجزت النار، ونزفت دبة الغاز واستسلمت، وخاب رجاءنا، وبلغ الجوع فينا حد الصراخ..

والشيء بالشيء يذكر .. ذكرّني هذا الموقف عندما أرسلت قريبي “سالم” يشتري لحمة من القاع فوقع على لحم بقرة عجوز يبدو أنها بلغت من العمر ضعفين أو جاوزت في عمرها المائة عام .. استمر اللحم على النار ساعتين ولم ينجح .. أستخدمنا البرمول والبندول والأسبرين، ولم تبق حيلة لدينا إلا وأجرينا عليها التجربة .. ظلت اللحمة عنيدة تقاوم النار حتى نفذت منّا كل الحيل .. بلغ الوقت الثالثة عصرا، واللحمة لم تستحِ من جوعنا وضيفنا، ولم ترأف حالنا، ولم تلين حتى بالنزر القليل .. موعد القات يمضي، والضيف محرج أشد منّا ومنتظر، ولا أدري إلى أين ذهبت به الظنون .. قدّمنا ما لدينا وقلت لضيفي: “الجزار زاد علينا” فيما كان يحاول مجاملتنا وتطبيع المشاعر وهو “يدعش” اللحم بيده وأسنانه ويقول: “لحمة ما تهز الدقن ماهيه بلحمه” .. فقهقه الجميع وخفف من إحراجنا وجعل بيننا البساط أحمدي..

كان يومها الغاز موفور، وكنا نشتري الغاز دِباب، غير أن اليوم صار من يشتري دبة الغاز أشبه بتاجر الجملة، وصرنا نحن نشتريه بالتجزئة والتفاريق .. اشترينا بألف وأربعمائة ريال غاز تعبئة .. نقلة أخرى تمت إلى الخلف .. نقلة إلى فقر أشد وطأة وليل أشد حلكة .. والمستقبل مجهول لا زال ينتظر..

في الأمس لحم واليوم رز من متبرع يدعي فعل الفضيلة، فيما هو يريد تحويلنا إلى مقلب لقمامته، ومن دمنا واستغلال جوعنا يرفع رصيده .. رميناه في المزبلة واكتفينا بما وجد، وحمدنا الله على نعمة، ودعيناه أن يديمها ويحفظها من الزوال..

صديقي الصوفي الجميل والكريم أردت له الاعتذار عن تأخير دين لازال في ذمتى، ومن ملمحه قرأت أنه محتاج للخمسة الريال، فأعطيته والحرج يأكل حشاشة وجهي خمسمائة ريال فيها كل حيلتي، فبدد حرجي وهو يقول أنها في هذه اللحظة تساوي خمسين ألف ريال .. أدركت أن المبالغ القليلة التي يقدمها المحتاجين للأشد احتياجا تساوي الملايين .. ما أجمل الفقراء وهم يسندون بعضهم بالقليل وهي تعني الكثير والكثير..

وفي ليلة يوم عيد كان الوجع ختام لا مسك فيه ولا عزاء .. تلقيت رسالة موجعة من صديقي الصحفي الذي كان قبل الحرب يدير مركزا إعلاميا لحماية الحريات الإعلامية جاء فيها: خطيئتنا أنّا صدقنا أن ما فعلناه ذات يوم كانت ثورة نقية مكتملة الانتصارات..!! وتعامينا عن فاجعة تسلل اللصوص والأوغاد والسفلة والكثير من القتلة والسماسرة، إلى مقدمة الصفوف .. وأننا، ويا للحسرة والخيبة، منحناهم امتياز تحقيق المكاسب، وتقاسم اليمن بكل أرضه وإنسانه غنائم وامتيازات .. نحن المضحوك علينا لم نحصد سوى الخيبات، والانكسارات .. ها نحن نقف مخذولين وعرايا ومنكسرين حد اليُتم .. عرضة للإهانة من أحط المخلوقات وأكثرها تفاهة ودناءة ووساخة .. لعنتي عليكم جميعاً أيها الأوغاد المتوزعين ما بين (شرعية) و (انقلاب).

صديقي هذا منذ أيام وفي ليلنا الداجي وجد نفسه وعائلته مطرودين بالقوة من المؤجر وثلة من المسلحين على ذمة الايجارات المتأخرة .. لم استطع مساعدته بعد أن أوصلونا الساسة اللئام إلى حال إغراق كل واحد منّا إلى رأسه وأكثر، ولم يتركوا لنا حتى هامش لأن نساعد بعض..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

زر الذهاب إلى الأعلى