العرض في الرئيسةفضاء حر

ابتكار وجبات ملائمة لتجنب خطر المجاعة

يمنات

لطف الصراري

في الرابع من نوفمبر الماضي، عرضت كريستيان آمانبور، كبيرة مراسلي محطة “CNN” صورة على اللواء أحمد عسيري، المستشار العسكري لوزير الدفاع السعودي. كانت الصورة لفتاة يمنية تبدو عليها آثار مجاعة بوضوح. طلبت كريستيان من المستشار العسكري تعليقاً على الصورة، باعتبار أن بلاده تقود حرباً على اليمن وتفرض عليه حصاراً يمنع المساعدات الدولية من الوصول لمحتاجيها في الوقت المناسب. تحدثت عما ينتج عن هذا الحصار من تلاعب بالمساعدات واختلاسها وبيعها، ومن ثم عدم وصولها لمن يحتاجها فعلياً.

لم يجد اللواء عسيري ما يقوله سوى تكرار السؤال عن المكان الذي التقطت فيه الصورة، والتكهن بأنها التقطت في تعز، حيث يفرض الحوثيون حصاراً على المدينة. سألته المراسلة عما إذا كانت الحرب السعودية في اليمن ستوقف حدوث المجاعة، فتحدث عن “بلاد كاملة فيها مثل هذه المرأة”، ثم ألقى بمسؤولية الحرب والحصار على المجتمع الدولي، ودعا “المنظمات الإنسانية” لزيارة تعز.

لا يهم إن كانت الصورة التقطت في تعز أو الحديدة، فقد بات واضحاً في الآونة الأخيرة كيف يروج المجتمع الدولي للمجاعة في اليمن، مستخدماً في ذلك تقارير المنظمات الإنسانية والدولية، بما فيها الأمم المتحدة؛ تقارير بدأت بالتحذير من زيادة معدلات سوء التغذية وتدني مستويات الأمن الغذائي، وصولاً إلى الحديث بثقة شبه مطلقة عن “مجاعة وشيكة” تنتظر اليمنيين. ذلك سببه استمرار الحرب والحصار الذي تفرضه السعودية، ولاسيما على المحافظات والمناطق الواقعة تحت سلطة الحوثيين. وتعز في هذه المعادلة واقعة بين سلطتين كلاهما تحسبها على الأخرى، لذلك تطحنها الحرب أكثر من أي شيء آخر.

يخبرنا تاريخ الحروب عن مجاعات أودت بحياة ملايين البشر في غضون أشهر أو سنوات قليلة؛ لبنان خلال الحرب العالمية الأولى عانى من مجاعة أودت بحياة ما يقارب 200 ألف شخص، إثيوبيا منتصف الثمانينات أودت المجاعة فيها بحياة 500 ألف شخص على الأقل، السودان، الصومال منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين… سوف يتطلب الأمر دليلاً إحصائياً للمجاعات عبر تاريخ الحروب في القرن الماضي وبداية القرن الحالي فقط، بما في ذلك المجاعة البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية.

إضافة لعدد ضحاياها ومستويات شدتها، اللافت في تاريخ هذه المجاعات هو كيف تعاملت معها سلطات وحكومات البلدان التي عانت منها. في لبنان مثلاً، يتحدث شاهد عيان نقلت إفادته مجلة “بدايات” الثقافية أن مسؤولي السلطات العثمانية بقيادة جمال باشا كانوا يصادرون أي غذاء يحصل عليه المواطن بأغلى الأثمان، بحجة أن الجيش بأمس الحاجة إليه، وبعد تعالي أصوات الجياع، أنشأت الحكومة شركة استيراد للحبوب، ثم كلفت مندوبين لاستلامها من مستودع مركزي ببيروت وتوزيعها على أهالي البلدات بأسعار منخفضة، لكنها ما لبثت أن أنشأت مستودعات لكل منطقة، وعينت عليها أشخاصاً. يقول شاهد العيان إنهم كانوا يخلطون الحبوب بالتراب قبل بيعه للأهالي.

في المجاعة البريطانية يختلف الأمر تماماً، حيث تعاملت حكومة تشرشل مع جوع مواطنيها بحيلة غذائية اتضح في نهاية المطاف أنها كانت مفيدة صحياً أكثر من النظام الغذائي الذي اعتاد عليه البريطانيون قبل الحرب.

في مقال نُشر في أكتوبر الماضي، يقول الصحفي كليف ايرفينغ إن تشرشل كتب عن استهداف الطوربيدات الألمانية في المحيط الأطلسي لإمدادات الغذاء القادمة لبريطانيا من أمريكا الشمالية: “هذا الخطر الفتاك الذي يحيق بحبال نجاتنا يقضم أحشائي”. يضيف إيرفينغ أن تشرشل كان حذراً من انتشار أخبار إغراق شحنات الغذاء في المحيط، وأنه استعان بمدير ناجح لسلسلة متاجر بالتجزئة، وعينه “وزيراً للغذاء”. وقد استعان الوزير، بدوره، بكبير الطباخين في واحد من أعرق فنادق لندن، ليعد له وجبة تستبدل اللحم المستورد بالخضروات المزروعة في بريطانيا. هكذا حصل على طبق سموه “طعام الحرب” أو “فطيرة وولتن”- نسبة لوزير الغذاء الجديد.

في اليمن، ومنذ ما يقارب ستة أشهر، لم تهدأ التحذيرات من حدوث “مجاعة وشيكة”، في الوقت الذي تتزاحم فيه مئات الشاحنات القادمة من الإمارات والسعودية يومياً على المنافذ الحدودية في حضرموت والمهرة. شاحنات الغذاء تتزاحم أيضاً على مداخل صنعاء، وإن كانت بأعداد أقل وأسعار أعلى. وإجمالاً، لن يعطينا المجتمع الدولي، الشقيق أو الصديق، أكثر من معونات محدودة الكمية والأصناف ستجد طريقها إلى السوق في كل مرة. ومن أين لعاطل عن العمل أو موظف لم يتقاض راتبه منذ أربعة أشهر أن يشتري هذه المواد الإغاثية مهما كان ثمنها؟

رغم ما تنطوي عليه تحذيرات المجاعة من خطورة حقيقية أو مبالغ بها في نفس الوقت، إلا أنه لم يعد خافياً على أحد تزايد الملتحقين بقطار الجوع. غير أن التجربة البريطانية تلك، تخبرنا بأن أسوأ مجاعة يمكن مواجهتها بفريق من الطباخين المهرة. وبدلاً من ترديد تحذيرات المنظمات الدولية بشأن المجاعة التي تنتظر مواطني “دولة الحوثيين” على وجه الخصوص، تستطيع حكومة ابن حبتور تشكيل لجنة من الطباخين الموهوبين وبائعي الخضار والسمك وما يتوفر من أغذية محلية، وتكليفها بابتكار وجبات ملائمة لتجنب خطر المجاعة، لكن بشرط ألا تسمح بتعيين “مشرف” عليها. وهكذا يمكن البدء باختبار جدوى ابتكار “طعام الحرب” على طلبة المدارس، الذين يذهب معظمهم إلى صفوفهم في ذروة برد الشتاء، بلا إفطار ولا مصروف جيب، ولا أمل بتعامل جيد من قبل مدرّس جائع.

عن: العربي

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

زر الذهاب إلى الأعلى