تحليلات

مشروع تعز الغائب بين مشاريع القرنين والبطنين والجنبين.. منصــور الســـروري

يمنات – خاص 

في زحمة الافتئات على مصير الوطن المشنوق فوق مصالب العواطف اليمنية تتواتر مشاريع القرنين " حاشد ، وبكيل " ، والبطنين " الحسن ، والحسين " ، الجنبين " الأول مملكة حضرموت مع المهرة وشبوة ، والثاني مملكة عدن أبين مع لحج الضالع ".

صحيح لدينا قوى سياسية في المشهد الوطني ، وحاضرة بقوة بيد أن جزءاً كبيراً من مكونات المشاريع المفتئتة على بلاد قاحلة يابسة ضائعة هي الأقوى ، وتتحرك خارج سياق سيطرة الدولة والعملية السياسية هذا من جانب ، والجانب التالي أنها تسوق وتعلن عن أهداف مشاريعها بوضوح ، وترفع مطالبها ، وتهدد بالويل والثبور إن تم تجاهلها ، بل أنها جاهزة لوضع كل ما تقدر عليه لإحباط المسارات التوافقية السياسية ، والذهاب بالبلاد إلى التشظي الوطني الذي لن يُبرئ منه اليمن إطلاقاً في المدى المنظور .

أمام المعطيات التي لا حصر لها بشأن قادم اليمن .. هل ستبقى تعز أكبر محافظات اليمن سكاناً ، وأكثرها مدنية  غائبة عن المشهد الوطني كقوة مجتمعية يعول عليها حسم الواقع إلى ما فيه تجنيب البلاد من الكوارث المحتملة ؟

لا يستطيع أي تعزي الإنكار أنه لم يسمع ــ منذ وقت طويل يسبق الثورة الشبابية بعقود أصوات من داخل ، وخارج تعز وخاصة خارجها دائماً السؤال : لماذا لا يتوحد أبناء تعز ، ويكونوا يداً واحدة ؟ ، أو مقولة : أنتم ابناء تعز مفرقين ، ومشتتين داخل الأحزاب التي أسستموها ، ولكن غيركم  هم من يقودونها .

غير أن الثورة الشبابية السلمية التي انطلقت في فبراير 2011م  في مدينة تعز ، و المآلات التي انتهت إليها أعادت إلى أذهان أبنائها سواء المقيمين داخلها وأريافها أو المنثورين في مختلف محافظات الجمهورية نفس السؤال ، والمقولة السابقة ، ولكن هذه المرة من أبناء تعز نفسها .

ثمة من يتبنى اليوم مشروعاً لتعز ، و قد قام " بسلسلة من اللقاءات المتوالية المنتظمة استهدفت مختلف الفئات المكونة للمجتمع التعزي من عمال المطاعم ، والورش  ، والبناء  ، والحرفيين  ، والفلاحين , وموظفين في القطاعين العام  ، والخاص على اختلاف درجاتهم الوظيفية مروراً بعدد من التجار , ورجال أعمال ، وأصحاب محلات ، وإعلاميين , وقانونين, وعسكريين , وصولاً إلى بعض النُخب من أبناء المحافظة كبعض الأكاديميين من أساتذة جامعيين , ومن أدباء , وكتاب , ومفكرين , , الخ .
لقد خلصت جميع النقاشات إلى طرح مصفوفة من الأسئلة تبلورت حصيلة إجاباتها في خلاصتها عن مشروع يضع هذا الجزء المدني من اليمن في موضع يتسق ووزنه ، وحجمه الطبيعيين على كافة المستويات , وجميع المجالات " (1)

وقد وقفت على مقدمة لمشروع هذا المكون الذي لم يعلن عن نفسه بعد لكونه في اللحظات الأخيرة لاستكمال المسودة الفكرية لمشروع تعز ، ووافق على نشري مقدمتها فقط .

طبعاً المتبني للمشروع ليسوا من الأشخاص العاديين ، وما شجعني على التعاطي مع الفكرة أنهم من صفوة الأكاديميين ، والمثقفين ممن يمثلون نخبة ظلت نائية عن الانتماءات السياسية ، والمذهبية الدينية المنغلقة .. وانتمائهم لتعز هو دافعهم الأول والأخير علاوة على دوافع حرمانهم من استحقاقات مهنية حرموا منها لمجرد أنهم لم يكونوا مع النظام السابق وليست لديهم علاقات بمراكز القوى المختلفة .

ولكي تتضح الصورة لمشروعهم التعزي أؤكد أن المسودة النظرية تمثل وثيقة مهمة لم ترق إليها أي وثيقة من قبل وفيها من الاستقراء للواقع الوطني والتعزي ما يجدر أن يلتفت إليه باعتباره مدخلاً واعياً لفهم وحل إشكاليات اليمن المعقدة ، لهذا سأنقل حرفياً ما ورد  فقط في مقدمتها التي جاء فيها :

( لقد تكثفت أمامنا متكشفة على حقيقتها جل المعطيات المادية الملموسة , حدت بنا صيروراتها التراكمية إلى ضرورة الصدع بمشـروع تعز أولا .

إن الإقدام على مثل هكذا خطوة جريئة لم تأت من فراغ ، وإنما من حقائق تثبت أن مشروع تعز صار ضرورة إنسانية , وحتمية اجتماعية , وفريضة وطنية , وحاجة مصيرية تحث أبناء هذه المحافظة على ضرورة فرض مشروعها الخاص بها بالمحاذاة للمشاريع المتمحورة مظاهرها بمشاريع " القرنين , البطنين ، الجنبين " .

إن مشروع " تعز أولا " لم يكتسب وجوده إلا من معطيات الحقائق القائمة التي ظلت أشبه بمتواليات وراثية من جيل لأخر أحياناً , واستنساخات أسرية سلا طينية ومشيخية , وقبائلية في أحايين أخرى , كما يؤكد المشروع أن الاعتراف بهذه الحقائق ، والقيام بإثبات مبرهناتها نظرياً ، وتطبيقياً فسوف تفضي في محصلاتها النهائية إلى إعادة تكوين العلاقات الاجتماعية تكويناً متكافئاً يقوم على ثلاثية التوحد والتصالح الذاتي والاجتماعي ، والتساوي المجتمعي   ، وندية القوة  الاجتماعية   .

ولقد وقفنا نحن المتبنيين لمشروع إعادة الاعتبار لتعز أرضاً وإنساناً أمام حٌزم من هذه الحقائق المغيبة ، والتي ما كان بدونها لينتضج هذا المشروع ، وينتقل من فكرة تحوم داخل أروقة ذاكرة المجتمع التعزي على اختلاف درجات وعي أبناءه إلى مشروع قائم  بذاته   .. يمثل نواة ومقدمة لبناء دولة مدنية حديثة .

الحقيقة الأولى :  المشروع ضرورة إنسانية :

لأنه من غير المنطقي  أن يظل إنسان تعز الأكثر مدنية وتنويراً أشبه بخادم يعمل عند بقية الأطراف المتنازعة على السيادة , وما يلحق هذا الواقع من استمرار الاستغلال لأبنائه  في كل المجالات العامة والخاصة , وتجرعهم لصنوف الغطرسة , والتقييد لجهودهم الإبداعية.

الحقيقة الثانية : المشروع حتمية اجتماعية:


لكون المشروع يخلق توازناً اجتماعياً على الصعيد الاجتماعي يؤدي إلى حدوث الاستقرار الشامل , والتنمية المستدامة , ويقلل من نسب الجرائم والتمايزات والأخطاء .

 

الحقيقتان الثالثة والرابعة:  المشروع فريضة وطنية , وحاجة مصيرية:

لأنه يجعل كافة الأطراف تتعايش على قواعد العلاقة المتكافئة , ويصرفها عن التفكير والعمل على الاستئثار بالحكم والسيادة الذي سيؤدي إلى التفتت و التشظي وتضاءل وتقلص حجم حكمها , وبهذا التكافؤ والتعايش يكون مشروع  تعز أولا  فريضة وطنية تحمي البلاد من الذهاب إلى أتون الضياع , علاوة على كونه حاجة مصيرية باتت أكثر إلحاحاً لتعز , وغيرها .

إن استمرار تغييب هذه الحقائق المعطاة تبقي العلاقات الاجتماعية بين مختلف الأطراف المكونة للنسيج الاجتماعي الوطني غير مستقرة و غير آمنة أو مطمئنة على حاضرها و مستقبلها , وتجعل احتمالات وخيارات الصدامات والحروب قائمة ، وهي خيارات ما كانت لتفرض منطق استمرار دورات العنف , وحصد النتائج الدامية , تأجيل فرص التغيير و التطوير , و يُعزى السبب الرئيس في ذلك إلى انعدام علاقة التكافؤ بين أطراف النسيج الاجتماعي التي يؤدي وجودها إلى تحقق مبادئ تكافؤ الفرص المتساوية في الحقوق و الواجبات المدنية بين مختلف الأطراف لكون " علاقة التكافؤ " في منظورها العلمي لا  تتبرهن إلا بتحقق شروطها الثلاثة ، واختلال شرط واحد منها يجعل العلاقة غير متكافئة .

و إذا كان هذا النوع من العلاقات التكافئية من أهم القواعد المتبعة في علم الرياضيات ــــ يستخدم لإثبات صحة العلاقة المتكافئة بين عناصرها ، و أي خطأ بسيط قد تنتج عنه عند تطبيقها كوارث كبيرة ــــ فإن اعتماد هذا المبدأ في صياغة ماهية العلاقات الاجتماعية تغدو أكثر أهمية نظراً للمحددات الثلاثة التي تجعل العلاقة أو العلاقات متكافئة بين الأطراف المكونة لأي مجتمع إنساني ذلك أن التكافؤ قائم على شروط الانعكاس ، والتناظر ، والتعدي على النحو التالي :ــ

أولا ً: الانعكاس : هو ارتباط العنصر بذاته .. والمقصود بأن كل فرد لا يكون سليما إلا َّ إذا كان مرتبط بذاته  هو التوحد ، والتصالح  مع النفس الذي يمثل مدخلاً صحيحاً للتصالح الاجتماعي " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " .

إن هذا الارتباط  الذي يظل ينمو و يتطور مع مراحل النمو العقلية هو ما يفضي بدوره إلى احترام الأفراد لخصوصية عاداتهم ، وتقاليدهم المتوارثة ، وقيمهم المدنية المكتسبة .

والمجتمع التعزي له عاداته و تقاليده علاوة على إيمانه المتزايد بقيم العلم وقدسيته ، وكل قيم التحديث لعصرنة حياته رغم كل تحديات الفقر و الصعوبات المختلفة التي تواجهه ، وجميعها تشكل وعيه المدني الفارق عن بقية أطراف المجتمع اليمني .

ولذلك يلاحظ أن أبناء تعز يرتبطون ارتباطاً وثيقا مع كل قيم التمدن والتطور والتقدم ارتباطاً ينعكس بدوره على واقع حياتهم التي تتماس مع واقع المجتمعات  البشرية المتطورة , وهذا الارتباط  ــ بين أفراد المجتمع التعزي مع شروط الحياة أو منظومة القيم الإنسانية و العلمية ــ هو انعكاس طبيعي ، ومؤشر على جهوزية الاستعداد الذاتي لمدننة و عصرنة كل سلوكياتهم اليومية بدليل أن كل فرد من تعز حين يسافر للدارسة و غيرها في دول متقدمة لا يعود إلا مكتسباً ، ومحافظاً على درجة التحضر التي اكتسبها , ولا ينعكس على ما كان عليه قبل هذه الانطلاقة بالقدر الذي  ينعكس فيه على ذاته بتطور أكبر ووعي أوسع .

إن هذا الانعكاس الذي يدفع بكل الأطراف المعنية في اليمن دوماً لتعود إلى أرومتها  العصبوية  ، وتناضل لفرض مشاريعها دونما مراعاة لمشاريع التحضر هو ما يفرض على تعز أن تنعكس هي أيضاً على ذاتها مثلها مثل غيرها لتطرح مشروعها الخاص .

اضطرارياً هنا سيجد كل طرف يرى ذات غيره في وعي ذاته بالقدر الذي تراه ذات غيره في وعيها .

ثانيا : التناظر : التناظر هو التماثل  ،والتقابل ،والتساوي ، وجميع هذه المفردات تشير إلى مضمون "أن ليس هناك من هو أكبر من الأخر أو أفضل منه اجتماعيا أو سياسيا … الخ" .

و علمياً  التناظر هو ارتباط كل من العنصرين بالأخر مثلا ارتباط (أ) بـ (ب) و ارتباط (ب) بـ (أ) وارتباط الأول بالثاني دون ارتباط الأخير بالأول يفقد شرط الارتباط و بالتالي يفقد التكافؤ عنصر من عناصر .

وباستخدام هذا التطبيق على واقع الحياة فإن الطبيعي هو في أن يكون هنالك تناظر ، وتقابل  بمعنى تماثل بين كل الأطراف المكونة للنسيج الاجتماعي اليمني , فلا يوجد لدى كل طرف شعور بأنه الأكبر من غيره قيمة , أو أنه الأحق بالحاكمية لاعتبارات دينية ، أو مذهبية ، أو معتقدات تاريخية بدائية متوارثة , وإنما لابد من الإيمان بالتساوي في كل الحقوق و الواجبات غير أن المعطيات التي نعيشها واقعاً ملموساً تؤكد أن لا إيمان من قبل أصحاب المشاريع الأخرى ــ في التسيد و السيطرة ــ بأحقية التساوي عند غيرها من الأطراف الأخرى ، وسيظل هذا الشعور التاريخي في انعدام التناظر الاجتماعي المتساوي واحداً من أسباب العلاقات الاجتماعية  اللامتكافئة .

ثالثاً : التعدي : هو التجاوز ، والتجاوز لا يتحقق إلا بشرطي القوة و السرعة ، وعندما يشعر كل طرف اجتماعي بقدرة الأخر على تجاوز قوته و فرض منطقه لا شك سيتقبل به ، لأن هذا القبول هو الذي يقود إلى الاتفاق على ماهية العقد الاجتماعي  الذي ينظم العلاقات بين كافة أطراف النسيج الاجتماعي من ناحية ، ومن ناحية تالية بين هذه الأطراف والدولة .

تلك كانت شروط العلاقات المتكافئة التي لن تستقيم دون حضور تعز داخلها حضوراً انعكاسيا ً ، وتناظرياً ، وتجاوزياً ، وأي تجاهل لمشروع تعز أولاً ، أو تحامل عليه ، أو استهداف له  فليس له من تفسير سوى الإصرار على استمرار التضخم لكل أزمات الوطن التي ستكون خلاصتها فقدان الكل للكل ــ أي لكل خيارات وجودها ــ  بعد أن كانت كل الممكنات متاحة للعيش في الحياة بشروط استمرارها .

إن الجوهريّ في مشروع (( تعز أولاً )) هو أنه يعمل على مقاومة , وفضح كل أشكال الظلم , وصور القهر , وهياكل الهيمنة والقمع , وتفتيت النماذج والممارسات الاستبدادية أياً كان شكلها الاستبدادي اجتماعياً أو دينياً أو مذهبياً أو طائفياً أو قبائلياً أو سياسياً أو ثقافياً .
إلى جانب ذلك يعمل المشروع على إعادة الاعتبار للمجتمع التعزي المهمش من كافة المشاريع الأخرى , وكذا وضع أبناؤه في المصاف الذي يستحقونه ليس على الصعيد الوطني فحسب , وإنما داخل كل المستويات التراتبية  داخل كل البُنى السياسية و الاقتصادية والاجتماعية والثقافية سواء داخل الأطر العامة في أجهزة الدولة المختلفة أو داخل الأطر السياسية والمدنية الخاصة .

ومن هذا المنطلق الجوهري لا تنحصر نتائج مشروع (( تعز أولا )) على القائمين على الدعوة إليه , ومتبني فكرته فقط , وإنما تتجاوز لغايات إلى مداءات بعيدة – كما أسلفنا – تضع كل تعزي أينما يكون في موضعه الذي يجب أن يكون فيه , وعلاوة على ذلك يعمل المشروع على إعادة صياغة الهوية التعزية ضمن الهويات الأخرى المتركبة منها الهوية الوطنية القائمة على احترام جوهرية الاختلاف , والاستحقاقات المدنية , والحياتية .

كما يبحث المشروع عن الصيغ العلمية والعملية في فعل التطور والارتقاء المتناغم من أجل تجاوز كل المألوفات التقليدية البالية ـــ التي لاتزال الاطراف المعنية في اليمن تجهد في اجترارها ، وتدأب في تكريسها لكأنها قدر تاريخي يجب أن تبقى تعز تحت وطأتها ـــ وذلك بقلب هذا المنظور التاريخي من ناحية داخل أبناء تعز , ومن ناحية ثانية  داخل الأنساق الاجتماعية الأخرى بما يؤدي في النهاية إلى التعايش الأكثر توازناً وعدلاً , إذ ليس من العدل بمكان أن تبقى تعز صانعة التحولات الكبرى في اليمن وحاضنتها , ونواة التمدن و العصرنة  في مراتب إدارة الحياة الهامشية ، وتحت إدارة من لا يركن عليهم حتى إدارة قطيع أغنام) .(2)

الهامش

1 ــ من مقدمة مشروع تعز أولاً.

2ــ  نفس المرجع .

زر الذهاب إلى الأعلى