فضاء حر

في فهم القضية الجنوبية (1)

لم تعد القضية الجنوبية مسألة أو قضية يمكن حلها عبر مصفوفة من الخطوات والنظريات  السياسية أو التصورات الدينية , واجتهاداتها أو على طريقة الأعراف والتقاليد القبلية  أو العسكرية, ولا حتى باجتماع هذه المصفوفات معاً.

لم تعد القضية الجنوبية إشكالية في ذاتها وإنما إشكاليات كافية في جذور ِإشكالية  القضية الجنوبية مثلاً ليست الإشكالية في القضية ولا في ثقافة إشكالية القضية, وإنما في إشكالية ثقافة إشكالية القضية الجنوبية وأي محاولات لتجاوز المشكل أو (المتأشكل) في إشكالية ثقافة الإشكالية لن تفضي ضمن سيرورتها بحلول قطعية ايجابية , وإنما تقاطعية مع المستقبل لحياة شعبنا سواء في  الجنوب والشمال , أو في طبيعة العلاقة التي سيعاد صياغتها على نحو تقاطعي معقد.

إن مسارات وأحداث القضية الجنوبية التي باتت عليها اليوم لم تأت دفعة واحدة ، وإنما مرت بمراحل ثلاثة من عمر الوحدة اليمنية أنتجت في محصلة معطياتها كل هذه التعقيدات التي إن تم حلها بوعي , ومسؤولية وطنيتين صادقتين  سنكون قد عبرنا باليمن إلى شواطئ الأمن والأمان.

وهذه المقالة  في تقديري تمثل محاولة في فهم القضية الجنوبية ، وأي تجاوز لهذا الفهم سيفضي في النهاية إلى فقدان المتاحات ، وخيارات الحل الممكنة ، وذهابنا إلى حالات التشظي الوطني الذي لن تقوم لنا بعده في هذا العالم قائمة .

أسئلة الإشكالية

تتزاحم الأسئلة في أذهان الفئات الواعية بتشعبات إشكالية القضية ، وتعدد جذورها وإشكالية  تمددها الثقافي في الوعي الاجتماعي الجنوبي ، ويُحار مؤرخ الأفكار في اختيار المنهجية العلمية التي سيعتمدها وعملية الاستقراء في شرح القضية.

 إزاء ذلك ألتمس العذر من فئة نخبوية معينة إذا ما لمست قلقاً في تقديم وتأخير بعض الأفكار , وأسئلتها أو في تداخل بعض الموضوعات التي قد ترى أنها حشرت في سياق (هذه المقالة) حشراً بينما هي ذات صلة وطيدة بجوهر( الإشكالية). ومن هذه الأسئلة:

– ما لتشخيص الموضوعي لإشكالية القضية الجنوبية؟

من الصعوبة بمكان الوصول إلى عملية التشخيص دونما توجد محددات شرطية فيمن سيعزى إليه القيام بمهمة عملية التشخيص وهنا نسأل ما هي شروط أو محددات  التشخيص؟ بعد الإجابة على السؤال الأخير سنكون قادرين على إجابة السؤال الأول, والأسئلة التي ستتلاحق بتاعاً.

أولاً: محددات تشخيص الإشكالية

تنقسم محددات تشخيص الإشكالية إلى محورين:

المحور الأول: المحددات الذاتية المطلوبة فيمن سيقوم بعملية التشخيص:

ونقصد بها هنا( الآهلية والجهوزية) في القدرة على تشخيص الإشكالية وتحديد جذورها أو في القدرة على تحديد العلاج الناجع لها علاجاً كفيلاً بإقناع الجنوبيين بالعدول عن فكرة فك الارتباط أو الاستقلال.

وللتوضيح أكثر أشير أنني من خلال معايشتي وجلوسي إلى عشرات من الفاعلين في  فصائل الحراك الجنوبي بعضهم ممن سجنوا واعتقلوا أو ظلوا مطاردين ومطلوبين لأجهزة السلطة إلى جانب متابعتي لكثير من تصريحات وأحاديث الفصيل المطالب لفك الارتباط التمست أنهم يرفضون رفضاً مطلقاً أن يكون كل من(مشائخ القبائل وتحديداً أبناء الشيخ الأحمر, و مشائخ الدين وخاصة الديلمي والزنداني وكل من وقف من العلماء من حزب الإصلاح إلى جانب تبرير شن الحرب على الجنوب مع علي صالح, وقيادات عسكرية كاللواء علي محسن وحتى المشير عبد ربه منصور هادي, والقيادات المدنية وفي مقدمتها باسندوه وغير هذه الفئات فهؤلاء في نظر أبناء الجنوب شاركوا منذ قيام دولة الوحدة في ضرب مشروعها الوطني وهم قبل أن يشاركوا في حل ما خلفته حرب1994م من أثار سنأتي عليها في ثنايا هذه القراءة مطالبين أولاً أفراداً وتجمعوا وخاصة تجمع الإصلاح  مطالب اليوم أن  يدين إدانة دامغة حرب صيف 1994م فمن غير  هذه الإدانة لن يكون من السهل إقناع أبناء الجنوب بأن تلك الحرب لم تكن حرب الشمال ضد الجنوب(1). وهذه الإدانة والاعتذار يكون حزب الإصلاح, وشيوخ الدين  والقبائل, والقيادات العسكرية والمدنية قد تأهلوا في عيون أبناء الجنوب, وأصبحوا قادرين على فهم قضيتهم.. هذا الشرط يعتبر أساسي في نفسية أبناء الجنوب ووعيهم, وعدم تحللهم من خطيئة حرب 94م وما سبقها من الدفع بالبلاد إلى الحرب وما نجم عنها من آثار كانوا هم – أي الجنوبيين – ضحاياها ومن تلظى بوقيدها دون التحلل والتطهر من تلك الأساسيات التي كانوا طرفا فاعلاً في صناعتها فإن أي علاج لن يكون مقبول بتاتاً..

وهذا هو المحدد والأول للقبول بأن يكون أؤلئك حاضرين ضمن عملية تشخيص إشكالية القضية الجنوبية والذي خلاصته الاعتراف بخطيئة الحرب وإدانتها والاعتذار عن جرم مشاركتهم فيها وعن ما لحق بالجنوبيين من آثارها .

هذا هو المؤهل الذي به سيكونون جاهزين لتشخيص إشكالية القضية الجنوبية ، وفهمها ووضع العلاج المناسب لها.

إن الاعتراف في جوهره " اكتشاف أؤلئك المخطئين لأنفسهم"  أولا ًــ  في إقتراف الخطأ بحق إخوانهم الجنوبيين ، وثانياً ــ اكتشافهم لخطورة نتائجه على مستقبل الوطن كاملاً , وذلك سيكون دليل على أنهم صاروا مؤهلين وجاهزين للقيام بعملية التشخيص, وبمعنى آخر صاروا ذاتياً مؤهلين للقبول بنتائج تشخيص إشكالية القضية الجنوبية.

المحور الثاني : المحددات الموضوعية: ونقصد بها الاستعداد الكلي في التسليم بأن هنالك مشكلة والإقرار بخطورتها من خلال المحددات الموضوعية التالية:

1 – الوقوف على منتجات إشكالية القضية الجنوبية

2 – تفهم جذور الإشكالية

3 – فهم الحلول المعالجات المناسبة.

ثانياً: تشخيص القضية الجنوبية

إن منتجات (بكسر التاء) إشكالية القضية الجنوبية لا يمكن حصرها بمرحلة ما بعد حرب صيف 1994م فحسب وإنما في ثلاثة مراحل  هي :

1 – المرحلة الأولى (22مايو90م حتى 20فبراير1994م)

2 – الثانية(20فبراير1994م-7/7 /1994م)

3 – الثالثة(7/7 /1994م-21فبراير2012م)

وكل مرحلة من هذه المراحل ظلت تراكم بدورها تعقيدات الإشكالية .

المرحلة الأولى (22مايو90م حتى 20فبراير1994م)

يصعب تجاوز المرحلة الأولى التي بدأت بقيام دولة الوحدة عام 1990م,وانتهت في تصوري يوم(20فبراير1994م) إثر توقيع وثيقة العهد  والاتفاق في مدينة عمان الأردنية.

يخطئ من يعيد قراءة هذه المرحلة حسب المنظور الإعلامي أو من خلال الطروحات النظرية المحلية من أن الحزب الاشتراكي أو أمينه العام كانا السبب في ما آلت إليه الأحداث والتطورات السياسية حينها.

بل أن تجربة هذه السنوات الأربع حدت بالجنوبيين وخاصة الفصيل المطالب بفك الارتباط تحاشي مناقشة أي موضوع عنها, وينظر لها على أنها تجربة فاشلة بكل المقاييس, وأن مشروع الوحدة لم ينتهي بالحرب أصلاً ، وإنما انتهى بالظواهر التي أفرزتها هذه  المرحلة من طغيان العادات والتقاليد والقيم والسلوكيات  المختلفة الشمالية على مظاهر الحياة الجنوبية التي كانت من الناحية المدنية أكثر رقياً.

لقد أصطدم الجنوبيين بتمايزات وظواهر يستحيل معها التعايش داخل دولة جديدة..فما هي هذه التمايزات ؟

أولاً  : التمايزات

أ‌- التمايز الاقتصادي والإداري

كان واضحاً وجلياً أن التمايز النوعي يصب في صالح دولة الجنوب اقتصاديا  على أكثر الجوانب المتصلة به بدليل أن القيمة الشرائية لـ(دينار الجنوب) تفوق معظم العملات العربية فكان(الدينار= 20 ريال سعودي= 26ريال يمنياً), وبدليل آخر كان التمايز الوظيفي لصالح الجنوب إذ ظهر الموظفون الجنوبيين الذين قدموا إلى دواوين الوزارات في صنعاء أكثر التزاما بالدوام الوظيفي كاملاً, وانضباطا في  الحضور, ومرونة في التعامل مع الموظفين, وأبوابهم مفتوحة دونما حراس عليها,وكان  جلياً أن التمايز الإداري الأكفاء والأنظف والأخلص يصب لصالح القادمين من دولة الجنوب,.

وعلى رغم أن الاقتصاد الجنوبي كان بيد الدولة (القطاع العام) ولا توجد استثمارات غير أن الحقائق تؤكد أيضاً أفضليته على الشمال ( انظر مجلة الحكمة أبريل 1990م ) وهذه هي  المعطيات:

1 – كان الدين العام الخارجي على الشمال (2مليار,51مليون دولا ) وخدمة الدين العام (1,99) مليون دولار بينما في الجنوب بنفس العام (مليار,927مليون  ,1000دولار) ، وكان الفارق أن ديون الشمال تزيد عن ديون الجنوب بـ(194,400,000) مائة وأربعة وتسعون مليون, وأربعة مائة ألف $ .

2 – كان عجز الشمال في ميزان العملات التجارية (695) مليون $, كان عجز الجنوب (382)مليون$*(انظر مجلة الحكمة ابريل 1990م ).

3 – وكان ميزان الحساب التجاري بين الصادرات والواردات السلعية يصب لصالح الجنوب فكانت قيمة الصادرات السلعية الجنوبية(30,50)مليون$ في حين الشمال(20,70)مليون$ والواردات السلعية تكلف الشمال(مليار,33مليون,200الف دولار  في حين قيمة الواردات السلعية في الجنوب(431)مليون,700الف$, ورغم أن  الميزان التجاري كان سلبيا على الدولتين لكنه كان أكثر سلبية على الشمال بفارق (611,مليون,400الف دولار *(انظر نفس المرجع ).

أكتفي بهذه الشواهد فقط لأذكر من لا يتذكر وأتساءل :

أليست هذه الأدلة ــ ويمكن العودة إليها من التقارير السنوية الصادرة عن الجامعة العربية لأعوام(87, 88, 89, 90م) ومجلة الحكمة اليمنية ــ كافية لإثبات زيف الدعاية التي كانت تشن , وتوظف خلال فترة حرب(1994م) ؟

واستمرت تشن بعد الحرب ضد الجنوب , ومن أنه كان أسوأ من الشمال اقتصاديا مستغلين في ذلك النمط الاقتصادي القاتم في الجنوب على أساس اقتصاد الدولة العام ، والذي كان  رغم ما فيه من أخطاء كبيرة ليس إلا نتاج مرحلة تاريخية كونية عاشتها كثير من شعوب العام تبعاً لمواقف وتحالفات دولها مع أحد المعسكرين أثناء  الحرب الباردة.

 وقد أتضح أن أعباء اقتصاد الدولة الاشتراكية في الجنوب أقل كثيرا من أعباء دولة الشمال الرأسمالية التي لم يكن لها  من الرأسمالية سوى الاسم.

إنني هنا لا أتحدث عن اخطأ هذا أو ذاك في مرحلة ما قبل 1990م عندما أورد هذه الشواهد والإحصائيات بقصد تفضيل أحدهما , وإنما أورد هذه الشواهد لغرض التذكير بأن أبناء الجنوب كانوا على يقين أنهم من حيث الأفضلية هم حقيقة أفضل من الشمال ، وكل ما يحتاجونه هو فقط الانفتاح على تجارب اقتصادية ناجحة كتجربة الصين مثلا لاستثمار  ثروتهم التي تفوق ثروة الشمال.

والأمر الأخر وهو في غاية الأهمية  يكمن في أنهم رأوا في الوحدة بداية جديدة في استخراج ثروتهم واستثمارها.. بصرف النظر عن أنهم لن ينفردوا بها.. فقد صاروا في دولة واحدة.

لكنهم وجدوا أن عوائد ثروتهم تذهب إلى النظام و متنفذيه , وكان شعورهم أنهم  حرموا منها مرتين وهي في بطون المياه والتراب ، وحرموا منها وهي تستنزف .. وازدادت حدة استياء حياتهم التي وإن كانت قبل الوحدة كما يرونها مقيدة لكنها لم تك تجعلهم يخشون الفقر والجوع .

وتتجلى  مظاهر التمايز الإداري إلى جانب الاستقرار الاقتصادي في غياب الفساد الإداري فلا يستطيع أحد الإخلال  بمهامه أو يأخذ رشوة ما نظير أية مهمة فقد كانت الرشوة جريمة مهما كانت بسيطة.

(يتبع)

زر الذهاب إلى الأعلى