تحليلات

الثورة من المسيرة الأولى إلى المبادرة.. الجزء الرابع – ماجد المذحجي

شكّل إبقاء المُشتَرك باب الحوار مواربًا مع السّلطة، نقطة التّوتّر الأساسيّة التي ألقت بظلّها على العلاقة بين الثُّوَّار الشّباب والمُشتَرك. وظلّت مسارات هذا الحوار وأجندته محلّ هجوم مستمرّ من مُختَلِف المكوّنات الثّوريّة الشّبابيّة على أحزاب المعارضة

في 7 أبريل 2011، زار وفد من المعارضة اليمنيّة الرّياض، ثم خرجت المعارضة لتعلن تمسّكها بمبادرة الثالث من أبريل، الدّاعية إلى "تنحّي" صالح عن الرّئاسة بشكلٍ صريح، وكان ذلك أوّل إعلان رسميّ من المعارضة، بقبولها المبادرة الخليجيّة

لم يستطع الشّباب الرّافض للمبادرة تصدير موقف متماسك، يجعل اللّقاء المُشتَرك والأطراف الإقليميّة والدّوليّة تعيد النّظر في المبادرة، وتعمل على الضّغط على صالح للتّنحّي خارج أيّ اتفاق سياسيّ

  •  


    موقع الشّباب من الفاعلين السّياسيّين

    شكّل اقترابُ الشّباب الثّوريّ اليمنيّ من اللّقاء المُشتَرك -الفاعل السّياسيّ التّقليديّ المعارض لصالح والأقرب لهم- محلَّ شدٍّ وجذبٍ، حسب موقع هذا الفاعل من النّظام وطبيعة إدارته للمسار السّياسيّ الجديد الذي أتى محمولًا على ظهر العمليّة الثّوريّة، وكيفيّة تفاعله مع الثّورة وأحداثها. ولقد شكّلت محطّات مُختَلِفة في مسار الثّورة، نقاط اقتراب وابتعاد بين الطّرفين، حكمتها -أساسًا- طبيعة مقاربة اللّقاء المُشتَرك للحدث. وفي 20 فبراير/ شباط 2011، شكّلت دعوةُ أحزاب اللّقاء المُشتَرك لأنصاره للانضمام إلى الشّباب في مظاهرتهم ضدّ النّظام، إيذانًا رسميًّا بدخوله في العمليّة الثّوريّة، والتّماهي مع مطالب الشّباب الدّاعية لإسقاط النّظام. لقد كان قرار اللّقاء المُشتَرك الرّسميّ بدعم حركة الاحتجاج الشّبابيّة، متغيّرًا نوعيًّا وهامًّا في المسيرة الاحتجاجيّة المتصاعدة، مع وجود اختلافات هامّة بين الأحزاب والمحتجّين من مُختَلِف الأوساط، الذين انخرطوا في المظاهرات عبر الشّوارع. وكانت النّقطة الأكثر أهميّةً هي، أنّ اللّقاء المُشتَرك لا يزال يترك الباب مفتوحًا للمفاوضات والحوار، في حين أنّ غالبيّة المتظاهرين من الشّباب وأعضاء المجتمع المدنيّ، ليسوا كذلك([1]).

     

    لقد شكّل إبقاء المُشتَرك باب الحوار مواربًا مع السّلطة، نقطة التّوتّر الأساسيّة التي ألقت بظلّها على العلاقة بين الثُّوَّار الشّباب والمُشتَرك. وظلّت مسارات هذا الحوار وأجندته محلّ هجوم مستمرّ من مُختَلِف المكوّنات الثّوريّة الشّبابيّة على أحزاب المعارضة. لا ريب أنّ المرونة التي أبداها المُشتَرك واستعداده الضمنيّ والمعلن لإجراء حوار مع النّظام، قد شكّلا مصدر خيبةٍ وإحباطٍ للثّوار من الشّباب؛ وظهر ذلك بوضوحٍ في إحدى اللّافتات التي يرفعها المتظاهرون من طلّاب الجامعات، إذ تقول: "لا حوار، لا أحزاب"([2]).

     

    لم ينشئ الطّرفان آليّةً وسيطةً وواضحةً، يُمكنها أن تُشكّل مفتاحًا لإدارة موقف موحّد إزاء تطوّرات الثّورة والمواقف السّياسيّة؛ وحتى اللّجنة التّنظيميّة -وهي قناة الاتّصال الأكثر وضوحًا بين المُشتَرك والشّباب- لم تخلق تفاعلًا سياسيًّا بين الطّرفين، ولم تستطع أن تدير الفعاليّات الثّوريّة بشكل مُرضٍ للشّباب المتحمّس لفكرة الحسم الثّوريّ بعيدًا عن أيّ حوارات سياسيّة يجريها المُشتَرك مع النّظام. ومن حين لآخر ظلّت اللّجنة التّنظيميّة محلّ هجوم من كثير من القُوى الشّبابيّة التي كانت تنظر إليها بوصفها أداةَ قهرٍ ضمنيّة للثّورة، وعطّلت بالتّالي فرصًا كثيرةً لتطوير العمل الثّوريّ، لكونها تنتمي في الأخير إلى أدوات اللّقاء المُشتَرك، ومقيّدة ضمنيًّا بمخاوفه وأجندته السّياسيّة، حتى ولو أعلنت عكس ذلك([3]).

     

    على مستوىً آخر؛ شكّلت العلاقة بين الشّباب والقُوى القبليّة المنضمّة للثّورة، أحدَ المستويات السّياسيّة غير المُعرّفة بشكلٍ واضح، حيث أعلنت القُوى القبليّة أنّها جزء من الثّورة، ولا تستهدف سرقتها من الشّباب([4]). كان هذا الإعلان محاولةً لطمأنة الشّباب الذين تشكّلت لديهم هواجس متعدّدة تُجاه أغراض هذه القُوى التي كانت إلى عهد قريب، جزءًا من النّظام؛ وهي بعد انضمامها للثّورة، تمتلك الكثير من أسباب القوّة التي تمكّنها من التّحكّم في مسار الثّورة، وفي المرحلة الجديدة لليمن ما بعد علي صالح؛ ويمكن لها –ببساطة- أن تعيد تجديد نفسها على رأس السّلطة ضمن صيغة جديدة من الشّراكات، تنظّمها وتضمنها المبادرة الخليجيّة. وهي علاوةً على ذلك؛ ذات موقف محافظ، وتخشى من أن يتبلور الاندفاع الثّوريّ على المستويات الاجتماعيّة، بما يُهدّد سلطاتها التّقليديّة التي تمدّها بأسباب الشّرعية والقوّة، كطرف في الحكم، ومستفيد مستمرٍّ من السّلطة.

     

    وإلى جوار العلاقة مع المكوّنات السّياسيّة التّقليديّة، تتمظهر التّعبيرات ذات الطّابع المناطقيّ والطائفيّ التي تستولي على حيّز واسع من شكل إدارة العلاقة بين المكوّنات الاجتماعية اليمنيّة، بسبب اعتداء النّظام على النّسيج الوطنيّ، وتمزيقه له، لضمان البقاء. ولم تتعامل المكوّنات الشّبابية الثّوريّة بشكلٍ مباشر مع هذه التّعبيرات النّشطة في المكوّنات الاجتماعية لليمنيّين، لكونها لم تنجز مواقف واضحة منها. كما استفادت هذه المكوّنات من الرّوح الوطنيّة التي بعثتها الثّورة، لتعمل على إزاحتها جانبًا بشكلٍ مؤقّت من أولويّاتها خلال تفاعلات الحدث الثّوريّ. ويبعث تجاهل الثُّوَّار لهذه التّعقيدات، مؤشّرات مقلقة وغير واضحة عن إمكانيّتهم على التّعامل مع هذه التّعقيدات الاجتماعيّة اليمنيّة التّقليديّة والخطرة، التي سيحكم مستقبل نموّها أو ضعفها وتفاعلها في ما بينها، طبيعة المرحلة السّياسيّة الجديدة، وشكل النّظام القادم على خلفيّة الثّورة، وفي إطار المبادرة الخليجيّة.

     

    المبادرة الخليجيّة واستجابة الثُّوَّار الشّباب

    في تاريخ 3 أبريل/ نيسان 2011، عرض المجلس الوزاريّ لدول الخليج في دورته الاستثنائيّة الـ31، مبادرته الرّامية إلى حل الأزمة في اليمن على مستوى السّلطة والمعارضة، في ما عُرف لاحقًا بـ"المبادرة الخليجيّة". استغرق الأمر أكثر من شهرين، قبل أن تقرّر دول الخليج التّدخّل في اليمن، بعد أن ظلّت تراقب الأمر من بعيد، متمسّكةً بحذرها التّقليديّ من إعلان مواقف سياسيّة تُجاه أيّ أحداث تدور داخل أيّ بلد عربيّ. وفي تاريخ 7 أبريل/ نيسان 2011، زار وفد من المعارضة اليمنيّة العاصمةَ السّعوديّة الرّياض، لنقاش موضوع المبادرة مع المجلس الوزاريّ الخليجيّ. وبعد الانتهاء؛ خرجت المعارضة لتعلن تمسّكها بمبادرة الثالث من أبريل/ نيسان، الدّاعية إلى "تنحّي" صالح عن الرّئاسة بشكلٍ صريح([5]). وكان ذلك أوّل إعلان رسميّ من المعارضة، بقبولها المبادرة الخليجيّة التي ما لبثت أن خضعت للكثير من التّعديلات والتّغييرات، في محاولة من دول الخليج لتفكيك مقاومة صالح الاستجابة لها والتّوقيع عليها.

     

    حرصت أحزاب اللّقاء المُشتَرك في إطار التّفاوض حول تعديلات المبادرة الخليجيّة، على عدم المساس بموضوع الاعتصامات التي يقوم بها الشّباب، خصوصًا وأنّ أحد بنود المبادرة ينصّ على إزالة أسباب التّوتّر سياسيًّا وأمنيًّا، ولاسيّما بعد أن تلقّت تلك الأحزاب تأكيدًا بعدم دخول الاعتصامات الميدانيّة ضمن هذا البند، لتُعلن موافقتها بشكل رسميٍّ([6]). لقد كان اللّقاء المُشتَرك يدرك تمامًا أنّ المبادرة الخليجيّة ستشكّل عنصرَ تفجيرٍ في علاقتها مع شباب الثّورة في اليمن، الذين أعلنوا بشكل واضح موقفهم الرّافض لهذا المسار السّياسيّ الذي يعتبرون أنّ الغرض منه تحويل الثّورة الشّعبيّة إلى أزمة سياسيّة، وهو أمر يستحيل عليهم قبوله، بعد أن سقط الشّهداء وكسر النّاس حاجز الخوف. علاوةً على ذلك؛ فإنّهم يدعون دول الخليج إلى التوقّف عن إنقاذ نظام متساقط([7]). كلّ ذلك؛ استدعى من المُشتَرك أن يكون حريصًا على توضيح أن موافقته على هذه المبادرة، لا تعني اقترابه من حقّ هؤلاء الشّباب بتَاتًا، في ممارسة الفعل الثّوريّ على طريقتهم، وتجنّبه الدّخول في جدل مباشر.. مع رفض الشّباب الحاسم لهذه المبادرة.

     

    لقد أعلنت معظم التّكوينات الثّوريّة موقفها الرّافض للمبادرة، وإدارة خطابها الإعلاميّ في مواجهة ما اعتبرته محاولةً لتمكين صالح من الإفلات من العقاب؛ واعتبر الشّباب القَبول بالمبادرة خيانةً لدماء الشّهداء. واللافت في الأمر؛ أنّه بينما كانت أحزاب اللّقاء المُشتَرك تمضي في إطار المفاوضات حول المبادرة الخليجيّة وتعديلاتها، كان موقف اللّجنة التّنظيميّة في ساحة التّغيير بصنعاء -والمحسوبة على المُشتَرك- تعلن رفضها القاطع للمبادرة، حيث اعتبروا أنّ المبادرة بشكلها النّهائيّ، أثبتت صحّة موقف الشّباب المعلن سابقًا، والرّافض لأيّة مبادرة لا تنطلق من السّاحات، كونها لن تلبي طموحات شباب الثّورة، ولن تمثّل إرادة الشّعب اليمنيّ، وعلى رأسها تنحّي الرّئيس وأقاربه فورًا، ومحاكمتهم مع كلّ المتورّطين في جرائم قتل أبناء الشّعب([8]).

     

    لم يستطع الشّباب الرّافض للمبادرة تصدير موقف متماسك، يجعل اللّقاء المُشتَرك والأطراف الإقليميّة والدّوليّة تعيد النّظر في المبادرة، وتعمل على الضّغط على صالح للتّنحّي خارج أيّ اتفاق سياسيّ، وباستثناء الإعلان المتكرّر عن رفضهم لها، ورفع الشّعارات المعادية لها، فإنّه لم يتبلور في الميدان ما يجبر أيّ طرف على الإصغاء إلى هذا الرّفض، خصوصًا وأنّ هنالك تقديرًا من الأطراف الرّاعية للمبادرة، يرى أنّها الوسيلة الأنسب والأكثر أمانًا، لكي لا تنزلق اليمن إلى أيّ شكل من أشكال العنف الأهلي، خصوصًا بعد انقسام الجيش بين السّلطة والمعارضة، إضافةً إلى معالم تفكّك سلطة الدّولة في العديد من المناطق والمحافظات اليمنيّة، واحتمال انهيار مؤسسات الدّولة، بما سيخلقه ذلك من حالة فوضى مدمرة، ستلحق ضررًا بالغًا بمصالح مُختَلِف الأطراف، فهي قد حرصت على الدّفع بهذه المبادرة حتى الحدّ الأقصى، وبأقلّ قدر من الإصغاء إلى الاعتراضات عليها، سواء من الشّباب أو الجماعات السّياسيّة الأخرى؛ مثل الحُوثِيّين والحَرَاك، الذين أعلنوا رفضهم لها لأسباب متباينة.

     

    "مسيرة الحياة"، ثورة المؤسّسات: هل هناك موجات في ثورة الشّباب؟

    في يوم 20 ديسمبر/ كانون أوّل 2011، تحرّكت مسيرة شبابيّة راجلة من تَعِز، جنوب وسط اليمن، إلى صنعاء([9])، كانت أعداد المشاركين في بداية الأمر لا تتعدّى الثلاثة آلاف، أثناءَ مغادرتهم المدينة، في ما عُرف بـ"مسيرة الحياة"، لتصل لعشرات الآلاف عند دخول مدينة صنعاء، عَقِبَ 4 أيّام من المسير المستمرّ؛ مرّت خلالها بكلٍّ من مدينة إب ومدينة ذِمار، قاطعةً حوالي 250 كيلومترًا، ليسقط 10 قتلى من المشاركين فيها عندما هاجمت قوّات الأمن الآلاف من المشاركين في المسيرة بصنعاء، مستخدمةً خراطيم المياه والغاز المسيل للدّموع، قبل أن تفتح النّار عليهم آخر الأمر([10])!

     

    أتت هذه المسيرة خارج الإيقاع المعتاد الذي اتّسم بالنّمطيّة في ساحات الثّورة في كلٍّ من صنعاء وتَعِز وبقيّة المحافظات اليمنيّة، خلال أكثر من 10 أشهر، لتشكّل تكتيكًا جديدًا في العمل الثّوريّ الشّبابي، استطاع به أن يعيد الحماسة للثّوّار بعد توقيع المبادرة الخليجيّة من أطراف العمل السّياسيّ اليمنيّ، وبدت المسيرة باعتبارها سلوكًا ثوريًّا جديدًا أعاد الاعتبار لقدرة الشّباب على الخروج بشكل مفاجئ، وخارج التّوافقيّات السّياسيّة التي أبقت السّاحات الثّوريّة في اليمن قيدَ التّجميد، وأشبه بورقة ضغط يستخدمها المُشتَرك للضّغط على النّظام لا أكثر.

     

    لم تعلن "مسيرة الحياة" أهدافًا واضحةً، ولكن سلّط المتظاهرون الضّوء، وبشكل رئيسي، على عدم رضاهم عن جزءٍ من اتّفاق نقل السّلطة، الذي يعطي الرّئيس المنتهية ولايته علي عبدالله صالح، الحصانة من المحاكمة. وطالب المتظاهرون بالانتقال فورًا إلى الدّيمقراطيّة، وإلغاء التّسوية مع صالح، ومحاكمة جميع الأشخاص المسؤولين عن العنف ضدّ المتظاهرين المسالمين على مدى العام الماضي([11]).

     

    لقد تعدّت دلالة هذه المسيرة المطالب المباشرة الخاصة بإلغاء الحصانة، ورفض مسار التسوية السّياسيّة القائم على أساس المبادرة الخليجيّة، لتصبح -بمستوىً ما- موجةً ثانيةً في الثّورة اليمنيّة، أكّدت على وجود فرصة لاستعادة الشّباب القرارَ الثّوريّ من يد الأحزاب التي كانت تسيطر ضمنًا على الثّورة، وتتسلّط على قرارها بشكلٍ غير معلن، ذلك أنّ "مسيرة الحياة" تكونت في الأصل من الثُّوَّار المستقلّين والحزبيّين المتحرّرين من التّبعيات الحزبيّة العمياء([12]).

     

    أثارت المسيرة استقطابًا واسعًا على مستويات عدّة؛ ووصفها السّفير الأمريكيّ بأنّها خارجةٌ عن القانون، وهو الأمر الذي أثار غضب الكثير من الأطراف. كما كان للمسيرة تداعياتٌ في أوساط الثُّوَّار الشّباب عَقِبَ وصولها إلى صنعاء، ومنحت زَخْمًا قويًّا للشَّباب الذين يعارضون مسار التَّسوية السّياسيّة من مُختَلِف التَّوجُّهات. وأدّت من جهةٍ؛ إلى توتر كبير في ساحة التّغيير في صنعاء، حيث يسيطر أنصار المُشتَرك، وتصاعد مستوى الاحتقان إلى حدِّ الاشتباكات داخلَ السّاحة من جهةٍ أخرى، حيث ذكر ناشطون أنّ 20 شخصًا على الأقلّ؛ قد أصيبوا خلال الاشتباكات التي قال ممثّل للحوثيّين عنها: إنّها اندلعت؛ عندما هاجم أنصار حزب الإصلاح خيمةً نُصبت لانتقاد الاتّفاق الذي بموجبه يتنحّى صالح عن السّلطة([13]).

     

    عَقِبَ "مسيرة الحياة"؛ توالى العديد من المسيرات الرّاجلة من المحافظات إلى صنعاء. وكان من أبرز تلك المسيرات: "مسيرة الكرامة"، القادمة من الحُديدة، والتي مرّت بمحافظتي حَجّة وعَمران، وصولًا إلى العاصمة، وانطلقت ضمن ذات الهدف والشّعارات التي رفعت في "مسيرة الحياة"؛ علاوةً على كونها أتت من خارج السّيطرة الحزبيّة للّقاء المُشتَرك على السّاحات، وبدعمٍ من جماعة الحُوثِيّين المُستبعدة من التّسوية السّياسيّة التي تضمّنتها المبادرة الخليجيّة.

     

    هذا؛ وبشكلٍ متزامنٍ –تقريبًا- مع "مسيرة الحياة" الرّاجلة، اشتعلت في العاصمة صنعاء وفي العديد من المحافظات، معالمُ انتفاضة مؤسّسيّة طالت القطاعين المدنيّ والعسكريّ في مؤسّسات الدّولة، عُرفت لاحقًا بـ"ثورة المؤسّسات"، حيث خرج الموظّفون في عددٍ من الإدارات الحكوميّة، مطالبين بتغيير قياداتهم، التي كان معظمُها محسوبًا على حزب المؤتمر الشّعبيّ العامّ الحاكم، ضمن اتّهامات متعدّدة لهم، تصدّرها الفسادُ الماليُّ والإداريُّ. كانت أولى الوقائع -في ذلك- انتفاضة موظّفي مصلحة الأحوال المدنيّة ضدّ رئيس المصلحة، ثمّ انتفاضة طلّاب كلّيّة الطّيران والدّفاع الجويّ ضدّ عميد الكلّيّة. لكنّ الواقعة الأخطر والأكثر إثارةً للانتباه، تمثّلت في امتداد تلك الانتفاضات إلى جهاز التّوجيه المعنويّ للقوّات المسلّحة، الذي يترأّسه العميد ركن علي الشّاطر، أحد أفراد الدّائرة الضيّقة المحيطة بالرّئيس صالح، وخروج أفراد هذا الجهاز يوم 26/12/2011، في اعتصام، مطالبين بتغيير الشّاطر الذي يتولّى إدارة التّوجيه المعنويّ منذ أكثر من 36 عامًا([14]).

     

    تمدّدت ظاهرة ثورة المؤسّسات، لتشمل عددًا من الألوية العسكريّة والمكاتب التّنفيذيّة للوزارات في عدد من المحافظات، شكّل تداعيًا جديدًا من تداعيات الثّورة اليمنيّة، حتى وإن لم يرتبط بشكلٍ عضويٍّ مباشر بتكويناتها الثّوريّة، حيث إنّ قطاعاتٍ جديدةً من المواطنين اليمنيّين -وصفت لفترة طويلة بالفئة الصّامتة- انضمّت إلى الثّورة عبر بوّابات مؤسّساتهم.. بالثّورة على الفساد والمحسوبيّة فيها.

     

    اتهمت قيادات في النّظام أحزاب اللّقاء المُشتَرك بأنّها الطرف الذي يقف خلف ما يحدث في المؤسّسات لتقويض المبادرة الخليجيّة. وباستثناء هذا الاتّهام، لم يكن هنالك ما يؤكّد ذلك، خصوصًا وأنّ هذه الثّورة طالت بعض القطاعات التي تخضع لسيطرة قُوىً محسوبةٍ على الثّورة؛ كان من أبرزها اللّواء 312 ميكا في محافظة مأرِب([15])، والذي انشقّ عن النّظام بعد تداعيات "جمعة الكرامة" في 18 مارس/ آذار، حين انشقّ اللّواء علي محسن الأحمر عن النّظام.

     

    لقد شكّلت "مسيرة الحياة" و"ثورة المؤسّسات"، تعبيرات جديدة للثّورة اليمنيّة خارج أدواتها التّقليديّة، وتحديدًا الاعتصامات والمظاهرات في إطار المدن. وبدت المسيرة وكأنّها محاولة من الثّورة للإفلات من مسار التّسوية السّياسيّة الذي تضمّنته المبادرة الخليجيّة وآليّتها التّنفيذيّة؛ ووقفت خلفها إراداتٌ مُختَلِفةٌ من ثوّارٍ شباب، وقُوىً سياسيّة، ومواطنين استبعدتهم العمليّة السّياسيّة الجديدة. وعلى الرّغم من الزّخْمِ والحماس اللّذين أثارتهما هذه الموجات الجديدة للثّورة، وأنّها أثبتت -في مستوىً ما- إمكانيّة استعادة المبادرة الشّعبيّة من أطراف آخرين لا ينتمون إلى اللّقاء المُشتَرك، إلّا أنّ آثارها ما زالت غير واضحة، خصوصًا في قدرتها على إنتاج واقعٍ سياسيٍّ جديدٍ يُعطّل مسار التّسوية الذي أنتجته المبادرة الخليجيّة؛ علاوةً على إعادة الاعتبار للثّوّار والقُوى المُستبعدة التي ترى أنّ نُخب النّظام السّابق أعادت إنتاج نفسها عبر المبادرة.

     


    [1] "اليمن بين الثّورة والإصلاح"، تقرير مجموعة الأزمات الدّوليّة رقم 102، مصدر سبق ذكره.

    [2] المصدر السابق.

    [3] من لقاء أجراه الباحث مع أحد شباب الثّورة في ساحة التّغيير في صنعاء، 18/3/2011.

    [4] "أودّ أن أؤكّد لكم، أنّنا لن نسرق ثورتكم نهائيًّا، فالثّورة ثورتكم، ومن يريد أن يشوّه أو يوقع الخلاف بيننا وبينكم، فهو محتال كذّاب أرعن.."، من كلمة للشّيخ صادق بن عبدالله بن حسين الأحمر، شيخ مشائخ قبائل حاشد، ألقاها أمام شباب ساحة التّغيير في صنعاء، بتاريخ 22/3/2011، صحيفة "أخبار اليوم"، http://www.akhbaralyom.net/news_details.php?sid=37765 .

    [5] عبدالحكيم هلال، "المبادرات الخليجيّة لإنقاذ اليمن"، "الجزيرة نت".

    [6] المصدر نفسه.

    [7] المصدر السابق.

    [8] بيان صادر عن اللّجنة التّنظيميّة في ساحة التّغيير في صنعاء، 11/4/2011.

    [9] "’الحياة‘: مسيرة راجلة، انطلقت من ساحة الحرّيّة بتَعِز باتجاه صنعاء"، موقع "الصّحوة نت"، 20/12/2011:

    http://www.alsahwa-yemen.net/arabic/subjects/1/2011/12/20/14786.htm

    [10] "اليمن: لجنة حكوميّة للتحقيق في الهجوم على مسيرة الحياة"، موقع CNNARABIC، 27/12/2011:

    http://arabic.cnn.com/2011/yemen.2011/12/25/yemen.dennounce/index.html

    [11] المصدر نفسه.

    [12] "مسيرة الحياة على فيسبوك: عن اللّصوص، والحماية، ودواجن الغراسي، والتّغذية، والقات، والقبيلة" – مادّة صحفيّة عن حوارات في "فيسبوك" عن "مسيرة الحياة"- أعدّها للنّشر أحمد الولي، موقع "حشد نت"، 30/12/2011، والنّص مقتبس من تعليق للصّحفي نبيل سبيع:

     http://www.hshd.net/news12694.html

    [13] "تشابك بالأيدي بين أنصار ومعارضي خطّة نقل السّلطة في اليمن"، رويترز، 27/12/2011: http://ara.reuters.com/article/topNews/idARACAE7BQ06220111227

    [14] مأرب الورد، "ثورة التّغيير تطارد عتاولة الفساد في المؤسّسات الحكومية"، موقع "الاقتصاد نيوز"، 26/12/2011: http://aleqtisadnews.net/index.php?ac=3&no=2152&d_f=101&t_f=0&t=5&lang_in=&vo=1

    [15] "المئات يتظاهرون في اللّواء 312 ميكا بمأرب ويغلقون بوّابات مقرّه للمطالبة بإقالة أركان حرب اللّواء"، "المصدر أونلاين"، 28/12/2011: http://almasdaronline.info/index.php?page=news&article-section=1&news_id=27045

     

     

    المصدر: الأولى

     

رابط الحلقة الأولى تجدونها على هذا الرابط

https://yemenat.netnews23328.html


 

رابط الحلقة الثانية تجدونها على هذا الرابط

https://yemenat.netnews23338.html


 

رابط الحلقة الثالثة تجدونها على هذا الرابط


زر الذهاب إلى الأعلى