حقوق وحريات ومجتمع مدني

«صحافة الثورة» اليمنية لا تواكب أهداف الثورة

دار الحياة – علي سالم-
تقدم صحافة الانتفاضة الشعبية في اليمن نموذجاً لطبيعة المعوقات الداخلية التي تواجه ثورات الربيع العربي، ومنها خطر تحول شعار التغيير إلى قبائلية إعلامية جديدة تعيش على لعن الماضي بدلاً من التحرر منه.

طوال أكثر من 11 شهراً من الانتفاضة الشعبية المطالبة بإسقاط النظام في اليمن، شهدت البلاد ولادة عشرات المطبوعات الصحافية، استطاع بعضها الوقوف على قدميه والاقتراب من الشرط المهني فيما أصاب التعثر والهزال غالبيتها. وعلى رغم أن صحافة «الهبة الشعبية» اليمنية جسدت فسيفساء الطيف السياسي والمذهبي في البلاد، فإنها جاءت في صورة هي أقرب إلى منشورات الجماعات السياسية التي خاضت معترك ثورات الاستقلال العربية خلال القرن الماضي، خصوصاً لجهة اعتمادها خطاباً يستهدف دغدغة عواطف الجماهير وإلهاب حماستها، ويردفه بهجاء يصل أحياناً إلى حد السباب العامي.

وشكّل شعار إسقاط النظام هدفاً جامعاً للإصدارات الصحافية التي تفاوتت في درجة المهنية والمرجعية كما في شكل المحتوى، إلا أنها تشترك في سمة واحدة تمثلت بعدم القدرة على تجاوز إرث الدعاية وصحافة الصوت الواحد.

غلبة الطابع الانفعالي على محتوى هذه الصحف أو عجزها عن اجتراح خط جديد يتوافق مع متطلبات الألفية الثالثة، لا يعود إلى طبيعة «اللحظة الثورية» فحسب، وإنما إلى عجز الصحافة اليمنية عن القطع مع واقع سياسي وثقافي ترعرع في كنف النظام القديم حكماً ومعارضة. وبالتالي، وُسِمت «صحافة الثورة» بهذا الإرث، سواء لجهة المستوى المهني للمشتغلين أم لجهة المحتوى الصحافي.

وكان انتقاد النظام الحاكم والتحريض عليه تحولا إلى ما يشبه «العلكة» (اللبان) لصحف المحترفين والهواة على حد سواء. ودرج كثيرون منهم على انتهاج صيغ انفعالية في انتقاد أخطاء النظام. فما ينشر باعتباره كشفاً لأخطاء وجرائم يأتي غالباً محمولاً بنبرة الإدانة والحكم الخاليين من قرائن وإثباتات.

ويرشح من صيغ الأخبار، أو ما يفترض أنها أخبار، عدم التزام القواعد المهنية ولو في حدها الأدنى. وأحياناً يكون الأمر عدم رغبة في الالتزام بهذه القواعد أكثر منه جهلاً بها. وتذهب بعض الصحف إلى حد عدم انتهاج أسلوب تحريري واضح حتى عندما يتعلق الأمر بالتغطيات الخبرية لنشاط الساحات.

ويحدث أحياناً أن تنشر صحف أخباراً تقول إنها تستند إلى وثائق، لكنها لا تدعم ذلك بصور للوثائق أو ما يشير إلى نوع الوثيقة وهويتها.

وقلما عنيت المادة المنشورة بالمعلومة، ناهيك بدقتها. وثمة أخبار هي أقرب إلى التلفيق والارتكاز الى شاعات. والمفارقة أن بعض الصحافيين المحترفين ممن عرف عنهم سابقاً مراعاتهم الشروط المهنية… باتوا «ممسوسين» بالخطاب الانفعالي الثوري. وثمة من صار يعتبر الحياد «أكذوبة». ولعل في التغاضي عن سلبيات شهدتها ساحات الاحتجاجات أو أخطاء ارتكبتها الجماعات الموالية للثورة ما يشي بمدى تدهور الأخلاقيات المهنية. بيد أن الانحياز القائم على مبدأ شبيه بالقاعدة العربية القديمة «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً» لم يدم طويلاً، إذ أخذت بوصلة الصحف تتحرك تبعاً للمتغيرات التي تطرأ على المكونات الحزبية للثورة. ففي اللحظة التي كان فيها الرئيس السابق علي عبدالله صالح ما زال يراوغ وهو لم يزل على كرسي الرئاسة، رافضاً التوقيع على المبادرة الخليجية المتضمنة نقل سلطاته إلى نائبه، كانت صحافة الساحات انحرفت 180 درجة متخذة مساراً صراعياً جديداً طرفاه الحوثيون والإصلاحيون أو الشيعة والسنة. والجماعتان تعدان من أبرز مكونات الثورة وأقواها.

ومن شأن المتابع لتلك الصحف وقوائم محرّريها وخلفيات تمويلها أن يكتشف مدى تصدر الفاعل السياسي التقليدي في صوغ توجهاتها في شكل يعيد إنتاج الأنماط القديمة أكثر مما يُحدث تجديداً في طرائق العمل والرؤى.

وكانت الأحزاب السياسية على الساحة اليمنية تلقفت من ثورات «الربيع العربي» عنوانها الرئيس، وهو الشباب، لتعيد إنتاج ذاتها من خلال تيارات وحركات وتكوينات شبابية حملت أسماء جديدة حتى صار لكل كيان صحيفته الخاصة تقريباً، وهو أمر يرتبط بمسعى تسجيل الحضور السياسي تحسباً لمطلب المحاصصة التي قد تفرضها مرحلة ما بعد إسقاط النظام… وهو ما حصل فعلاً، وإن في صيغة تقاسم للسلطة مع النظام السابق.

لكن اللافت أن «المواراة» الحزبية من خلال هذا العدد الكبير من الكيانات والصحف، قادت إلى تشتيت الجهود في إصدارات مكررة تفتقر إلى أدنى المقوّمات. وكانت النتيجة أن هزال المنتج الصحافي جعله أقرب إلى المنشور السياسي منه إلى الصحيفة. أما الأمر الأسوأ فيتمثل في عجز صحافة الانتفاضة اليمنية، التي حملت شعار التغيير، عن تقديم أداء صحافي يرقى الى مستوى اللحظة الديموقراطية كما يفترضها فعل الثورة على القديم. ولا شك في أن ذلك يشكل تحدياً لإعلام ثورات «الربيع العربي» المفترض نهوضها على ثقافة جديدة عنوانها: العقلانية والديموقراطية وحقوق الإنسان. والراجح أن استفحال التطلب السياسي بوجهه القديم إلى درجة تحويل وظيفة الصحافة إلى محوّر للحقائق أو حاجب لها، ينذر بنتائج كارثية على الصحافة والسياسة معاً.

وكانت صحف «الهبّة الشعبية» جاءت محمّلة بالمآزق ذاتها التي لطالما عانت منها الصحافة اليمنية، ومنها انتقائية النظر إلى التاريخ وتوصيف وقائعه. وباستثناء مرحلة حكم صالح التي قدمتها صحافة «الهبة الشعبية» كنقطة سوداء ودموية، تعاملت الصحافة ذاتها مع رموز الانقلابات العسكرية السابقة باعتبارهم أبطالاً، ومن هؤلاء منفذ أول عملية اغتيال سياسي في تاريخ اليمن الحديث.

ومع احتدام الصراع بين الحوثيين والإصلاحيين أخذت بعض الصحف المقربة من الجماعات الشيعية تتعاطى مع بعض أحداث الثورة الشعبية من منظور لا يبتعد كثيراً عن منظور الإعلام الموالي للرئيس السابق، ومن ذلك تشكيك بعض الصحف الشيعية في حقيقة مجزرة 18 آذار (مارس) 2011، وفي عدد الضحايا. وبلغ الأمر حد اتهام «حزب الإصلاح» والقائد العسكري المنشق علي محسن الأحمر بالضلوع في ارتكاب المجزرة و «فبركتها».

وعلى رغم تفرّد «الهبّة الشعبية» في اليمن بقناة تلفزيونية تنطق باسمها، هي قناة «سهيل» الفضائية التي يملكها الزعيم القبلي حميد الأحمر القيادي في حزب «تجمع الإصلاح» الإسلامي، فإن الأداء المهني الهزيل للقناة أفقدها قدرة التأثير الإيجابي في الجمهور الواقف على الحياد، ناهيك بأولئك المتعاطفين مع النظام.

وهناك من يرى في «سهيل» وجهاً آخر للقنوات الرسمية، خصوصاً مع وقوعها في «مطب» التحريض المنافي للأخلاق المهنية، مثل تحويل مشاهد الضحايا إلى أداة للدعاية.

زر الذهاب إلى الأعلى