فضاء حر

نحن في طور استعادة أدميتنا..

 

على مر التاريخ لم يُهن الإنسان في هذا البلد، ولم يُذل، ولم يفقد قيمته وآدميته كما فقدها إبان حكم علي عبد الله صالح، سواء كان هذا الإنسان في هيئته المدنية أو منخرطاً في سلك المؤسسة العسكرية، إذ سيان بين هذا, وذاك, في ظل نظام كرس كل وقته وكل إمكانيات ومقدرات هذا البلد لنعيمه ونعيم أسرته ولتميزه وتميز أسرته عن سائر خلق الله من البشر في بلد يصل قوام تعداد سكانه نحو25 مليون مواطن ومواطنة، ظلوا في معتقد هذا الحاكم طوال فترة حكمه في عداد الأنعام التي تحصى في خانة ممتلكاته كما هي الأرض التي كان يقتطع منها ما يشاء ويستنزف من خيراتها ومن ثرواتها ما يشاء.

ثلاثون عاما ويزيد عليها ثلث عقد من الزمن أشك بأن من كان يحكمنا خلال كل هذه الفترة كان يمتلك في جمجمته مشروع دولة أياً كان حجم وصغر هذا المشروع، إذ ما بدا عليه هذا الحاكم خلال كل هذا العمر الطويل أنه كان مكلفاً بمهمة غير وطنية مقابل وضعه وإبقائه على كرسي الحكم, كل هذه العقود الطويلة تتمثل بإحداث دمار شامل في هذا البلد لا يقتصر على الدمار المادي فحسب وإنما يتعداه إلى تدمير نفسية الإنسان ذاتها من خلال تجويعه وتشتيت قواه العقلية وتسليط كل حثالات المجتمع عليه, واستحضار كل أمراض الدنيا المعروفة والمستحدثة لتنهش في جسده، بحيث يبقى دائم الترنح، وبحيث لا يجد وقتاً يفكر فيه بما يحدثه الحاكم بالبشر وبالوطن من كوارث وما يرتكبه من فظاعات خلال كل هذا الوقت الطويل الذي جثم على صدر الوطن وعلى أنفاس أبنائه.

الإنسان الذي كان خلال ثلث قرن من حكم صالح مطية من مطاياه، ولعبة من لعبه التي يتسلى بها في حروبه المتعددة والمصطنعة وفي حفلاته، ومهرجاناته وانتخاباته المزيفة والمزورة…. لم يعد ذاته ذاك الإنسان الذي كان مسكوناً بالذل، وبالخوف والإحباط المتجرد من وطنيته ومن آدميته، لقد تغير هذا الإنسان بمجرد زوال العامل الذي جرد شعباً برمته من ملكات إبداعاته، ومن الطاقات الخلاقة الكامنة فيه، لقد زال العامل المحبط والمتمثل برأس النظام الذي كرس حكمه لوأد كل الطاقات الإبداعية في هذا البلد مقابل تسليط الضوء على ذاته وعلى هيلمان عرشه، وعلى إنجازات وهمية اتضح زيفها بمجرد مغادرته كرسي الحكم؛ كونها في حقيقة الأمر لم تكن في يوم من الأيام غير سراب في قاع.

ما نشهده اليوم من تحول ومن تغير في سلوك وفي ديناميكية كثير من رجالات الدولة سواء في السلك المدني أو العسكري ما هو إلا خير دليل على ما كان يمارسه رأس النظام السابق من ضغوطات نفسية على هؤلاء أفقدتهم الحركة وأعاقتهم عن القيام بمسئولياتهم، الأمر الذي أظهرهم للناس على أنهم مجرد دُمى مفرغين من الطاقات البشرية التي تتوفر في أي كائن بشري ولو بنسب متباينة.

ما نلحظه اليوم في الأخ الرئيس هادي أنه مختلف تماماً عن النائب هادي، إذ اتضح أنه يمتلك من الكاريزما ومن الإمكانات الإدارية ومن الحضور في المشهد الرئاسي اليومي ومن الخبرات العسكرية والحزم العسكري ومن العشق لهذا الوطن ما لم يكن يخطر على بال، خلافاً لما كان عليه حينما كان مجرد أسير مقعده ومجرد نزيل بيته خلال ثمانية عشر عاما من 1994م، وحتى فبراير 2012م.

مثال آخر يتمثل بوزير الدفاع محمد ناصر أحمد الذي كان في عهد النظام السابق مجرد كتلة من اللحم محشوة في بذلة عسكرية لا علاقة له لا بالعير ولا بالنفير، اليوم نجده "شوارزكوف" آخر الفرق بينهما أن الجنرال الأمريكي كان نجماً ساطعاً في معركة عاصفة الصحراء إبان حرب الخليج المتعلقة بتحرير الكويت عام 1991م، بينما الجنرال ناصر نجماً ساطعاً في حربه الوطنية والمقدسة التي تدور رحاها الآن في زنجبار، وجعار، ولودر، والكود ضد جماعات التطرف والإرهاب المسماة بالقاعدة وبأنصار الشريعة.

هذه نماذج فقط تكشف لنا عن حجم الإحباط الذي علق بنفسيات العديد من كبار المسئولين وكبار القادة العسكريين خلال فترة حكم صالح، هذا الإحباط الذي لم يتوقف تأثيره عند هذه القامات الوطنية فقط, إذ انسحب على كل المكون الاجتماعي بحيث بدا وكأن الكل مشلول تماماً عن الحركة, تجلى ذلك في تراجع المجتمع في كثير من المجالات التعليمية والصحية والثقافية والرياضية وفي معيشة المواطن اليومية وفي مظهره وفي مكانته بين شعوب العالم، بل وحتى في قدرته على المواجهة القتالية في إطار الجيش وهو المشهود له على مر التاريخ في تفوقه في مجال رجولي كهذا.

ما من أحد كان يعمل في إطار منظومة حكم صالح أياً كان موقعه في جهازي الدولة المدني والعسكري، إلا وكان ينطلق في مهامه ومسئولياته من موقع توجهات الحاكم أياً كانت خاطئة ومضرة بمصالح الوطن، إذ كان منطلق الجميع هو إرضاء هذا الحاكم وإشباع رغباته ونزواته، الأمر الذي أظهر جميع هؤلاء بمظهر الدمى المتحركة، حتى وإن كان بعضها ينفذ التعليمات على مضض، ودون قناعة أو رضى نفسي. هؤلاء البعض ممن مورس عليهم مثل هذه الضغوط النفسية، نجدهم اليوم وبعد أن أسدل الستار على حقبة حكم صالح، نجدهم في مقدمة الباحثين عن ذاتهم، وفي طور استعادة الثقة بأنفسهم على طريق استعادة آدميتهم، ابتداءً من الرئيس هادي، مروراً برئيس الوزراء باسندوة، وصولاً إلى مواطني سقطرى، المستثنى من هذا الحدث الإنساني هم قلة هامشية ربما لا تذكر ممن استمرؤوا العيش في مناخات غير صحية وغير وطنية, مناخات هي الأقرب لطبيعة الدمى، التي لا يمكنها الحركة إلا بتحريك الخيوط المتصلة بها، كما هي دمى المسارح، التي تضحك أطفالنا، أكثر مما تضحكنا.

ما أحدثه النظام السابق بهذا البلد وما ألحقه بالإنسان من دمار مادي ونفسي.. يعد حالة استثنائية وعمل متفرد تفرد به هذا النظام على بقية الأنظمة الديكتاتورية العربية التي أطاحت بها ثورات الربيع العربي، إذ لم ينجح النظام هنا في إحكام سيطرته وقبضته على الإنسان فحسب وإنما تخطى جميع الأنظمة الديكتاتورية في قدرته على إفراغ هذا الإنسان من أدميته وتحويله إلى مخلوق آخر، الأمر الذي وضع الثورة الحالية أمام تحدِ يتجاوز تحدي ثورات الربيع العربي الأخرى، ألا وهو كيفية تمكين هذا الإنسان من استعادة أدميته أولاً وقبل أي بناء آخر.

المصدر صحيفة " الأولى"

زر الذهاب إلى الأعلى