أرشيف

صنعاء صباح الستينيات .. تفاصيل  يرويها شاهد عيان محايد

كتابة الصفحات المهمة في تاريخ الشعوب غالباً ما نرى فيها شيئاً من الاختلاف في الرؤى يصل أحياناً إلى درجة التناقض، وهنا سنرحل مع شاهد عيان محايد عاصر  أحداث الأيام الأخيرة للإمامة وعاش لحظات الثورة اليمنية وما تلاها . شاهد العيان هذا هو سفير العراق في اليمن آنذاك الأستاذ/ ابراهيم الولي ولنقرأ معاً جزء من مذكراته.

رؤوس معلّقة في أبواب العاصمة وقاصرات زوجات لمسؤولين جمهوريين

يقول السفير في مذكراته، لقد علمت  من بعثة منظمة الصحة العالمية أن نفوس المدينة حوالي 18 ألفا فقط ربما يكون ذلك أدق إحصاء تم حتى ذلك الحين.

ونحن في جولتنا الصباحية في المدينة لاحظت أمرين احدهما شرطياً للمرور كان يمارس عمله في تصريف حركة السير ربما الدواب أكثر من السيارات وهو مقيد بسلسلة في رجله. وقد علمت أنه معاقب. وثانيهما عدد من المتسولين الذين قيل لي أنهم يقضون فترة سجنهم إلاّ أنهم يتسولون الطعام لقوتهم وقوت سجانيهم.

كما لاحظت على أحد أبواب المدينة مقابل المدرسة الحربية رأس إنسان معلقة بعد أن اعدم بالسيف، كما شهدت بالصدفة موكبا يعاقب فيه من وجد بحوزته خمرة بصبها على رأسه ويرجمه الصبية للتشهير به .

وخلال تجوالنا في أسواق المدينة القديمة ومنها سوق العرج وهي إشارة إلى كلمة أعرج حيث تباع الحيوانات العرجاء أو ذوات العاهة، لاحت لي صبية في حوالي التاسعة من عمرها صبوحة الوجه وهي في سن أولادي فوددت أن ألاطفها، فما كان من زميلي إلا أن نهرني خشية العواقب قائلاً بأن هذه الصبية ربما تكون سيدة متزوجة وهي في هذه السن المبكرة وقد أدركت هذه الحقيقة في تاريخ لاحق عندما زارني مرة صديق من كبار موظفي الخارجية ومعه زوجته الصغيرة التي تركتنا وراحت تلعب مع ولدي وليد وخالد بدلا من الجلوس معنا. وصادف أن كان الوزير البريطاني "غاندي" في زيارة غير مقررة للسفارة إذ وصل صنعاء في استدعاء على عجل وعندما عرفته بالمسؤول اليمني والسيدة عقيلته بدت على وجهه علامات الدهشة لحداثة سن السيدة مما استوجب اعتذاره.

أما في حديثه عن البريد فقد أورد السفير كلام فيه شيء من العجب، فكان بريدنا الدبلوماسي يصلنا من الحديدة على ظهر جمل، الغريب فيه أنه يصل بوقته بالضبط حتى لقد فاقت مواعيده السيارات التي قامت بالمهمة في عهدة الثورة .

ومعذرة لأهل صنعاء الكرام فأنا لا اريد أن ازور الأشياء، وأقول ما قال شاعر منافق يصف صنعاء أمام الإمام أحمد بقوله : باريس دونك في الجمال ولندن وعواصم الرومان والأمريك..الخ .. والطريف في الأمر أن الإمام احمد اجاب هذا الشاعر العراقي بقصيدة يمدح بها بغداد دون أن يهبه شيئا وكان ذلك دهاء عرف به.

العرب عنصر شغب في نظر الإمام

يقول السفير العراقي في مذكراته سألت وزير الإمام عن الجو السياسي العربي فكان التشاؤم يطغى على حديثه.. وسألت الوزير عن السبب في بقاء جميع المفوضيات الأجنبية في تعز واقتصار البعثات العربية ، العراق ومصر والسعودية على الإقامة في صنعاء بينما يجلس الإمام ووزارة الخارجية في تعز . قال الرجل إن الإمام قد اختص الأشقاء العرب بهواء صنعاء ومناخها الطيب. ولهذا ابقاهم بعيدا عن تعز .. وقد بدت لي في ملامح الرجل مسحة ساخرة وهو يسوق لي هذا التبرير الذي لم يكن هو مقتنعا به. وقد علمت فيما بعد من أحاديث تجري هنا وهناك أن الإمام يرى في الأشقاء العرب عنصر شغب من الأفضل إبقاؤهم بعيدا عن مجلسه.

ولم يطل بنا المقام مع العهد الملكي فقد توفي الإمام أحمد بن يحيي في 19 أيلول 1962م واشتركت في صلاة الجنازة عليه، ونصب ولده الامام البدر بن احمد يحيي اماما وملكا على اليمن فذهبت للقصر الملكي المجاور لبيتنا للتهنئة ووصلت إلى كرسيه بشق الأنفس إذا كان المهنئون من أبناء القبائل يملؤون ممرات القصر بشكل مفرط بالفوضى. لقد  بدا لي الملك البدر سيداً مهذبا وهو يتلقى التهنئة ، ووعدني بزيارة السفارة في وقت قريب. وهو أمر لم يتم بالطبع ذلك أن فترة ملكه لم تدم لأكثر من اسبوع.

 المحويتي الذي تحول إلى مواطن سويدي

يعمل في السفارة ستة مستخدمين محليين والعريف محمد معياد الذي يقوم بالحراسة مكلفا من وزارة الداخلية وهو رجل ملتزم وطيب. مرة واحدة فقط نهرته عندما وجدته يحاول أن يعلم ابني خالد تخزين القات . وهناك الطباخ محمد المحويتي الذي كانت ام وليد زوجتي تعلمه الطبخ وقد فاجأنا عندما نقلت إلى ستوكهولم بظهوره على الباب واندهشت من وجوده رغم أنه سبق أن اخبرني برغبته في السفر إلى السويد للحاق بنا ولكني لم آخذ المسألة على محمل الجد وقتئذ، ومع هذا عينته هناك حارساً في دار السفير.

وبقي المحويتي في السويد بعد نقلنا من هناك واصبح في ما اعلم سويديا حيث يقيم الآن .

ولشد ما ازعجني عندما وصل المحويتي وعلمت أنه جاء ليستقر هنا أنه ينوي طلاق زوجته التي تركها وراءه في صنعاء دونما ذنب وتلك ظاهرة كانت تسود اليمن ، وأرجو أن تكون قد تغيرت الآن فقد كان من الطبيعي أن تسأل عن صديق يمني في بيته فترد عليك زوجته بأنه غير موجود فقد سار وعندما تستفسر منها إلى أين فهي لا تدري هل ذهب على المقهى ام لزيارة صديق أم سافر داخل اليمن في عمل. وإذا بك تكتشف فيما بعد أن الرجل قد هاجر إلى "مانشستر" أو إلى " ميتشيجان" " أو كحالة المحويتي إلى ستوكهولم دونما رجعة. والهجرة ظاهرة مرغوب فيها في اليمن حتى إن احصائية السكان في عام 1975م اظهرت أن عدد سكان اليمن بلغ 6.471.893 منهم 1.234.000 مهاجر بين أمريكا وبريطانيا وفرنسا والسويد والسعودية.

 

المفوضية السعودية في مرمى حجر الشارع

علمت حوالي الظهر أن الملك البدر غادر المدينة هاربا وأنه متجه على حجة. بعد أن تأكد لي نبأ هروب البدر أعددت برقية رمزية لوزارة الخارجية أعلمها فيها بقيام الثورة وان القائمين بها هم مجموعة من الضباط الشباب عددهم يتراوح بين 18، 24 ضابطا على رأسهم النقيب عبد الله جزيلان الذي أصبح وزيراً للدفاع، وقلت في البرقية إن هذه الثورة ستمر بظروف غاية في الصعوبة بسبب تمكن البدر من الهرب، ونصحت حكومتي أن تعلن الاعتراف بالثورة اسوة بمصر التي أعلنت ذلك تشجيعا لهذا التغيير المهم في المحيط العربي،وتأخر اعتراف العراق بالثورة الوليدة رغم تكرار برقياتي لوزارة الخارجية وزاد إلحاح المسؤولين علي بالتأكيد حول هذا الأمر. وقد اكتشفنا بعدئذ أن برقياتنا الرمزية لم تكن تبرق بغداد مما سيأتي شرحه لاحقاً.

بالمناسبة  فقد طافت مظاهرة رجمت المفوضية السعودية بالحجارة . وقد نصحت المسؤولين على الفور بتأمين الحماية للقائم بالأعمال وللمفوضية وإذا كانت النية متجهة إلى قطع العلاقات مع السعودية فلابد من تأمين الحماية الكاملة للموظفين وعائلاتهم عند تسفيرهم حتى الحدود, وقد تم ذلك إذ رافقهم حرس خاص إلى صعدة ومنها إلى الحدود السعودية.

 

 جزيلان في السفارة العراقية

وفي اليوم التالي زارني النقيب جزيلان ومعه بعض الضباط، وقد بدا عليه الارهاق وكان يحمل سلاحه "الكلاشنكوف" معه ، فهنأته على قيام الثورة وقلت له أني نصحت حكومتي أن تعلن اعترافها بالثورة . فقال إنهم يعولون كثيرا على اعتراف العراق بثورتهم . ونبهت الأخوة اليمنيين إلى ضرورة إصدار بيان يطمئن الدول الأجنبية على رعاياها والتأكيد على الالتزام بميثاق الأمم المتحدة ومبادئ عدم الانحياز ومؤتمر " باندونك" وميثاق الجامعة العربية الخ .. وقد ساعد ذلك الإعلان على تهدئة الخواطر وطمأن العالم الخارجي وخصوصاً الغرب إلى حد ما لمسار الثورة وغاياتها، وتحدث عن ظروف قيام الثورة وما إلى ذلك وقال السيد جزيلان أنه يرجو ان تبعث الحكومة العراقية بمساعدة عسكرية للتغلب على ما قد تثيره بعض القبائل المتمردة من مشاكل وقد علمت أن نفس الطلب قدم للمفوضية المصرية.

 

السلال . .  بين الولاء والرغبة

فعند الساعة الثانية عشرة ليلا وقد كنت أقرأ في الفراش مذكرات " انطوني ايدن" " التي جلبتها من جنيف ، انطفأ الضوء ثلاث مرات ظننت معها أن عطبا قد لحق بمولد الكهرباء ، وإذا بما وقع كان إشارة البدء بالثورة كما علمت فيما بعد.

وقد تلا ذلك اطلاق نار كثيف شعرت ان مصدره دبابة أو أكثر تقف على الطريق الصيني موجهة مدفعها إلى قصر البشائر الذي يقع وسط بيوت كثيرة في المدينة.

وكانت اصابة مباشرة للطوابق العليا من القصر.

لم يكن الثوار يملكون سوى طلقات مدفع محدودة العدد دبروها من دخولهم الخاصة. ولولا التوجه إلى الزعيم عبد الله السلال وهو قائد الحرس الملكي حينئذ والاستنجاد به لإقناع حراس دار السلاح بفتح مخازن السلاح امام الثوار، لقضي على الثورة في مهدها.

 ومرة أخرى للتاريخ أذكر أن اشاعة راجت أوائل أيام الثورة مؤدها أن بعض الضباط ذهبوا على دار السيد السلال ليلاً- بعد بدء العمليات العسكرية- لدعوته إلى الانضمام مع رجال الثورة فوجدوه مترددا بين الذهاب إلى حيث الإمام البدر للدفاع عنه بصفته قائدا لحرسه او الالتحاق بالثورة وهو راغب بها ، على أني اسرد هذه الاشاعة مع عدم تأكدي من صحتها وإن كانت نقلت لي من ضباط كبار وقتها .

ولقد اراد الله سبحانه وتعالى للثورة أن تمضي في طريقها وهكذا كان الأمر، فقد استمر الرمي بكثافة بين الجانبين حتى ضوء الصباح، الثوار يستهدفون القصر حيث البدر متخذين مواقع على الطريق الصيني في خط مستقيم مع القصر عبر بيوت المدينة المكتظة.. ورجال القصر من موقعهم.

وعندما فتحت المذياع فجر ذلك اليوم جاءني صوت المذيع مبشرا بقيام الثورة والجمهورية وكان من بين من احتل دار الإذاعة المتواضعة السيد محمد الفسيل.

حاولت الخروج إلى الشارع لاستطلع الأمور فنهاني أحد الضباط الشباب من خطورة التجول الآن فعدت إدراجي ، ولأسجل التاريخ هنا أن السيد عبد الواحد القائم بالأعمال المصري قال لي في اليوم ذاته أنه حاول الاتصال بي عند سماعه الرمي فلم يفلح وأنه لا يدري ما الأمر حتى إذاعة البيان ولقد اخبرني البعض من الثوار بأنهم كانوا يحاولون ولو بتردد نقل أنباء الثورة إلى العراق، ولكنهم لم يجدوا التشجيع فآثروا إغفال الأمر ، على أني قرأت بعدئذ في مذكرات السيد عبد الله جزيلان أنه كان قد أعلم المسئول المصري بساعة الصفر في وقت مبكر.

زر الذهاب إلى الأعلى